الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }

عطف على جملةكذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون } الأنعام 122 فلها حكم الاستئناف البياني، لبيان سبب آخر من أسباب استمرار المشركين على ضلالهم، وذلك هو مكر أكابر قريتهم بالرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وصرفهم الحيل لصدّ الدهماء عن متابعة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشار إليه بقوله { وكذلك } أولياء الشياطين بتأويل { كذلك } المذكور. والمعنى ومِثْل هذا الجعل الذي جعلناه لمشركي مكّة جعَلنا في كلّ قرية مضت أكابرَ يصدّون عن الخير، فشبّه أكابر المجرمين من أهل مكّة في الشرّك بأكابر المجرمين في أهل القرى في الأمَممِ الأخرى، أي أنّ أمر هؤلاء ليس ببدع ولا خاصّ بأعداء هذا الدّين، فإنَّه سنّة المجرمين مع الرسل الأوّلين. فالجَعل بمعنى الخلق ووضععِ السّنن الكونيّة، وهي سنن خلق أسباب الخير وأسباب الشرّ في كلّ مجتمع، وبخاصّة القُرى. وفي هذا تنبيه على أنّ أهل البداوة أقرب إلى قبول الخير من أهل القرى، لأنَّهم لبساطة طباعهم من الفطرة السّليمة، فإذا سمعوا الخير تقبّلوه، بخلاف أهل القرى، فإنَّهم لتشبّثهم بعوائدهم وما ألفوه، ينفرون من كلّ ما يغيّره عليهم، ولهذا قال الله تعالىوممنّ حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق } التوبة 101 فجعل النّفاق في الأعراب نفاقاً مجرّداً، والنّفاق في أهل المدينة نفاقاً مارداً. وقد يكون الجَعل بمعنى التّصيير، وهو تصيير خَلْق على صفة مخصوصة أو تصيير مخلوق إلى صفة بعد أن كان في صفة أخرى، ثمّ إنّ تصارع الخير والشرّ يكون بمقدار غلبة أهل أحدهما على أهل الآخر، فإذا غلب أهل الخير انقبض دعاة الشرّ والفساد، وإذا انعكس الأمر انبسط دعاة الشرّ وكثروا. ومن أجل ذلك لم يزل الحكماء الأقدمون يبذلون الجهد في إيجاد المدينة الفاضلة الّتي وصفها أفلاطون في «كتابه»، والّتي كادت أن تتحقّق صفاتها في مدينة أثينة في زمن جمهوريتها، ولكنّها ما تحقّقت بحقّ إلاّ في مدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم في زمانه وزمان الخلفاء الرّاشدين فيها. وقد نبّه إلى هذا المعنى قوله تعالىوإذَا أردْنا أن نهلك قرية أمَّرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً } الإسراء 16 على قراءة تشديد ميم { أمَّرنا }. والأظهر في نظم الآية أنّ { جعلنا } بمعنى خلقنا وأوجدنا، وهو يتعدّى إلى مفعول واحد كقولهوجعل الظّلمات والنّور } الأنعام 1 فمفعوله { أكابر مجرميها }. وقوله { في كل قرية } ظرف لغو متعلّق بــــ { جعلنا } وإنَّما قدّم على المفعول مع أنّه دونه في التعلّق بالفعل، لأنّ كون ذلك من شأن جميع القرى هو الأهمّ في هذا الخبر، ليَعلم أهل مكّة أنّ حالهم جرى على سُنن أهل القرى المرسل إليها. وفي قوله { أكابر مجرميها } إيجاز لأنَّه أغنى عن أن يقول جعلنا مُجرمين وأكابر لهم وأن أولياء الشياطين أكابر مجرمي أهل مكة، وقوله { ليمكروا } متعلّق بــــ { جعلنا } أي ليحصُل المكر، وفيه على هذا الاحتمال تنبيه على أنّ مكرهم ليس بعظيم الشأن.

السابقالتالي
2 3