الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

جملة { قل لمن ما في السماوات والأرض } تكرير في مقام الاستدلال، فإنّ هذا الاستدلال تضمّن استفهاماً تقريرياً، والتقرير من مقتضيان التكرير، لذلك لم تعطف الجملة. ويجوز أن يجعل تصدير هذا الكلام بالأمر بأن يقوله مقصوداً به الاهتمام بما بعد فعل الأمر بالقول على الوجه الذي سنبيّنه عند قوله تعالىقل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } في هذه السورة 40. والاستفهام مستعمل مجازاً في التقرير. والتقرير هنا مراد به لازم معناه، وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يفضي إلى إبطال معتقدهم الشركَ، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح، والمقصود هو المعنى الكنائي. ولكونه مراداً به الإلجاء إلى الإقرار كان الجواب عنه بما يريده السائل من إقرار المسؤول محقّقاً لا محيص عنه، إذ لا سبيل إلى الجحد فيه أو المغالطة، فلذلك لم ينتظر السائل جوابهم وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله { لله } تبكيتاً لهم، لأنّ الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجّة مقدّرة فيه محاورة وليس هو محاورة حقيقية. وهذا من أسلوب الكلام الصادر من متكلّم واحد. فهؤلاء القوم المقدّر إلجاؤهم إلى الجواب سواء أنصفوا فأقرّوا حقّيّة الجواب أم أنكروا وكابروا فقد حصل المقصود من دمغهم بالحجّة. وهذا أسلوب متّبع في القرآن، فتارة لا يذكر جواب منهم كما هنا، وكما في قوله تعالىقل من ربّ السماوات والأرض قل الله } الرعد 16، وقولهقل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } الأنعام 91 إلى قولهقل الله } الأنعام 91، وتارة يذكر ما سيجيبون به بعد ذكر السؤال منسوباً إليهم أنّهم يجيبون به ثم ينتقل إلى ما يترتّب عليه من توبيخ ونحوه، كقوله تعالىقل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكّرون } المؤمنون 84 إلى قولهقل فأنّى تسحرون } المؤمنون 89. وابتدىء بإبطال أعظم ضلالهم. وهو ضلال الإشراك. وأدمج معه ضلال إنكارهم البعث المبتدأ به السورة بعد أن انتقل من ذلك إلى الإنذار الناشىء عن تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك لمّا كان دليل الوحدانية السالف دالاً على خلق السماوات والأرض وأحوالها بالصراحة، وعلى عبودية الموجودات التي تشملها بالالتزام، ذكر في هذه الآية تلك العبودية بالصراحة فقال { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله }. وقوله { لله } خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه { ما في السماوات }. الخ. ويقدّر المبتدأ مؤخّراً عن الخبر على وزان السؤال لأنّ المقصود إفادة الحصر. واللام في قوله { لله } للملك دلّت على عبودية الناس لله دون غيره، وتستلزم أنّ العبد صائر إلى مالكه لا محالة، وفي ذلك تقرير لدليل البعث السابق المبني على إثبات العبودية بحقّ الخلق. ولا سبب للعبوديّة أحقّ وأعظم من الخالقية، ويستتبع هذا الاستدلالُ الإنذار بغضبه على من أشرك معه.

السابقالتالي
2 3 4