الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ }

هذا تخلّص من محاجّة المشركين وبيان ضلالهم، المذيَّل بقولهإنّ ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } الأنعام 117. انتقل الكلام من ذلك إلى تبيين شرائع هدى للمهتدين، وإبطاللِ شرائع شَرَعها المضلّون، تبيينا يزيل التّشابه والاختلاط. ولذلك خللت الأحكام المشروعة للمسلمين، بأضدادها الّتي كان شرعها المشركون وسلَفُهم. وما تُشعر به الفاء من التفريع يقضي باتّصال هذه الجملة بالَّتي قبلها، ووجه ذلك أنّ قوله تعالىوإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله } الأنعام 116 تضمّن إبطال ما ألقاه المشركون من الشّبهة على المسلمين في تحريم الميتة، إذ قالوا للنّبيء صلى الله عليه وسلم " تزعم أن ما قتلتَ أنت وأصحابك وما قتل الكلب والصّقر حلال أكلُه، وأنّ ما قتل اللَّهُ حرام " وأنّ ذلك ممّا شمله قوله تعالىوإن هم إلاّ يَخْرصون } الأنعام 116، فلمّا نهى الله عن اتِّباعهم، وسمّى شرائعهم خرصاً، فرّع عليه هنا الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه، أي عند قتله، أي ما نُحر أو ذُبح وذُكر اسم الله عليه، والنّهيَ عن أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه، ومنه الميتة، فإنّ الميتة لا يذكر اسم الله عليها، ولذلك عقبت هذه الآية بآيةوإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائِهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون } الأنعام 121. فتبيّن أنّ الفاء للتّفريع على معلوم من المراد من الآية السّابقة. والأمر في قوله { فكلوا } للإباحة. ولمّا لم يكن يخطر ببال أحد أنّ ما ذُكر اسم الله عليه يحرم أكلُه، لأنّ هذا لم يكن معروفاً عند المسلمين، ولا عند المشركين، علم أنّ المقصود من الإباحة ليس رفع الحرج، ولكن بيان ما هو المباح، وتمييزه عن ضدّه من الميتة وما ذبح على النُّصُّب. والخطاب للمسلمين. وقوله { مما ذكر اسم الله عليه } دلّ على أنّ الموصول صادق على الذّبيحة، لأنّ العرب كانوا يذكرون عند الذّبح أو النّحر اسم المقصود بتلك الذكاة، يجهرون بذكر اسمه، ولذلك قيل فيه أُهِلّ به لغير الله، أي أُعلن. والمعنى كلوا المذكّى ولا تأكلوا الميتة. فما ذُكر اسم الله عليه كناية عن المذبوح لأنّ التّسمية إنَّما تكون عند الذّبح. وتعليق فعل الإباحة بما ذكر اسم الله عليه أفهم أنّ غير ما ذكر اسم الله عليه لا يأكله المسلمون، وهذا الغير يساوي معناه معنى ما ذكر اسمُ غير الله عليه، لأنّ عادتهم أن لا يذبحوا ذبيحة إلاّ ذكروا عليها اسم الله، إن كانت هديا في الحجّ، أو ذبيحة للكعبة، وإن كانت قرباناً للأصنام أو للجنّ ذكروا عليها اسم المتقرّب إليه. فصار قوله { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } مفيداً النّهي عن أكل ما ذُكر اسم غير الله عليه، والنّهي عمّا لم يذكر عليه اسم الله ولا اسم غير الله، لأنّ ترك ذكر اسم الله بينهم لا يكون إلاّ لقصد تجنّب ذكره.

السابقالتالي
2