الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }

هذه الجملة معطوفة على جملةأفغير الله أبْتغي حَكَما } الأنعام 114 لأنّ تلك الجملة مَقولُ قول مقدّر، إذ التّقدير قل أفغير الله أبتغي حكماً باعتبار ما في تلك الجملة من قولهوهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً } الأنعام 114 فلمّا وصف الكتاب بأنّه منزّل من الله، ووصف بوضوح الدّلالة بقولهوهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً } الأنعام 114 ثمّ بشهادة علماء أهل الكتاب بأنَّه من عند الله بقولهوالذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزل من ربّك } الأنعام 114، أعلَم رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأنّ هذا الكتاب تامّ الدلالة، ناهض الحجّة، على كلّ فريق من مؤمن وكافر، صادق وعدُه ووعيده، عادل أمره ونهيه. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة { وجعلنا لكلّ نبي عَدوّاً } وما بينهما اعتراض، كما سنبيّنه. والمراد بالتمام معنى مجازي إمّا بمعنى بلوغ الشّيء إلى أحسن ما يبلغه ممّا يراد منه، فإنّ التّمام حقيقته كون الشّيء وافراً أجزاءه، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه، فيستعار لوفرة الصّفات التي تراد من نوعه وإمّا بمعنى التّحقّق فقد يطلق التّمام على حصول المنتظر وتحقّقه، يقال تَم ما أخبر به فلان، ويقال أتم وعده، أي حقّقه، ومنه قوله تعالىوإذِ آبتلى إبراهيم رَبُّه بكلمات فأتَمَّهُن } البقرة 124 أي عمل بهنّ دون تقصير ولا ترخّص، وقوله تعالىوتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } الأعراف 137 أي ظهر وعده لهم بقولهونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض } القصص 5 الآية، ومن هذا المعنى قوله تعالىوالله متمّ نوره } الصف 8 أي محقّق دينه ومثبتُه، لأنَّه جعل الإتمام في مقابلة الإطفاء المستعمل في الإزالة مجازاً أيضاً. وقوله { كلمات ربك } قرأه الجمهور ــــ بصيغة الجمع ــــ وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف كَلمة ــــ بالإفراد ــــ فقيل المراد بالكلمات أو الكلمة القرآن، وهو قول جمهور المفسّرين، ونقل عن قتادة، وهو الأظهر، المناسب لجعْل الجملة معطوفة على جملةوالذين آتيناهم الكتاب } الأنعام 114. فأمّا على قراءة الإفراد فإطلاق الكلمة على القرآن باعتبار أنّه كتاب من عند الله، فهو من كلامه وقوله. والكلمة والكلام يترادفان، ويقول العربُ كلمة زهير، يعنون قصيدته، وقد أطلق في القرآن الكلمات على الكتب السّماوية في قوله تعالىفآمِنوا بالله ورسوله النّبي الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته } الأعراف 158 أي كتبه. وأمّا على قراءة الكلمات بالجمع فإطلاقها على القرآن باعتبار ما يشتمل عليه من الجمل والآيات. أو باعتبار أنواع أغراضه من أمر، ونهي، وتبشير، وإنذار، ومواعظ، وإخبار، واحتجاج، وإرشاد، وغير ذلك. ومعنى تمامها أنّ كلّ غرض جاء في القرآن فقد جاء وافياً بما يتطلّبه القاصد منه. واستبعد ابن عطيّة أن يكون المراد من { كلمات ربك } ــــ بالجمع أو الإفراد ــــ القرآن، واستظهر أنّ المراد منها قول الله، أي نفذ قوله وحكمه.

السابقالتالي
2 3