الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ }

استئناف بخطاب من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقدير الأمر بالقول بقرينة السّياق كما في قوله تعالىلا نفرّق بين أحد من رسله } البقرة 285 أي يقولون. وقوله المتقدّم آنفاًقد جاءكم بصائر من ربكم } الأنعام 104 بعد أن أخبره عن تصاريف عناد المشركين، وتكذيبهم. وتعنّتهم في طلب الآيات الخوارق، إذ جعلوها حكَماً بينهم وبين الرّسول عليه الصلاة والسلام في صدق دعوته، وبعد أن فضحهم الله بعداوتهم لرسوله عليه الصلاة والسلام، وافترائهم عليه، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وتركِهم وما يفترون، وأعلمَه بأنَّه ما كلَّفه أن يكون وكيلاً لإيمانهم، وبأنَّهم سيَرجعون إلى ربّهم فينبّئهم بما كانوا يعملون، بعد ذلك كلّه لَقَّن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم خطاباً كالجواب عن أقوالهم وتورّكاتهم، فيفرّع عليها أنّه لا يطلب حاكماً بينه وبينهم غير الله تعالى، الّذي إليه مرجعهم، وأنهم إن طمعوا في غير ذلك منه فقد طمعوا منكراً، فتقدير القول متعيّن لأنّ الكلام لا يناسب إلاّ أن يكون من قول النبي عليه الصلاة والسلام. والفاء لتفريع الجواب عن مجموع أقوالهم ومقتَرحاتهم، فهو من عطف التّلقين بالفاء كما جاء بالواو في قوله تعالىقال إنّي جاعلك للنّاس إماماً قال ومن ذريّتي } البقرة 124، ومنه بالفاء قوله في سورة الزمر 64قل أفغيرَ اللَّه تأمرونيَ أعْبُد أيّها الجاهلون } فكأنّ المشركين دعوا النّبي إلى التّحاكم في شأن نبوءته بحكم ما اقترحوا عليه من الآيات، فأجابهم بأنّه لا يضع دِين الله للتّحاكم، ولذلك وقع الإنكار أن يحكِّم غير الله تعالى، مع أنّ حكم الله ظاهر بإنزال الكتاب مفصّلا بالحقّ، وبشهادة أهل الكتاب في نفوسهم، ومن موجبات التّقديم كون المقدّم يتضمّن جواباً لردّ طلب طلبَه المخاطب، كما أشار إليه صاحب الكشاف } في قوله تعالىقل أغير الله أبغي رباً } في هذه السورة الأنعام 164. والهمزة للاستفهام الإنكاري أي إن ظننتم ذلك فقد ظننتم مُنكراً. وتقديم { أفغير الله } على { أبتغي } لأنّ المفعول هو محلّ الإنكار. فهو الحقيق بموالاة همزة الاستفهام الإنكاري، كما تقدّم في قوله تعالىقل أغير الله أتَّخذ وليّا } في هذه السورة 14. والحَكَم الحاكم المتخصّص بالحكم الَّذي لا ينقض حكمه، فهو أخصّ من الحاكم، ولذلك كان من أسمائه تعالى الحَكَم، ولم يكن منها الحاكم. وانتصب { حكما } على الحال. والمعنى لا أطلب حكَماً بيني وبينكم غير الله الّذي حكم حُكمَه عليكم بأنَّكم أعداء مقترفون. وتقدّم الكلام على الابتغاء عند قوله تعالىأفغيرَ دين الله يبغون } في سورة آل عمران 83. وقوله { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً } من تمام القول المأمور به. والواو للحال أي لا أعدل عن التّحاكم إليه. وقد فصّل حكمه بإنزال القرآن إليكم لتتدبّروه فتعلَموا منه صدقي، وأنّ القرآن من عند الله.

السابقالتالي
2 3