الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }

اعتراض قصد منه تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم والواو واو الاعتراض، لأنّ الجملة بمنزلة الفذلكة، وتكون للرّسول صلى الله عليه وسلم تسلية بعد ذكر ما يحزنه من أحوال كفار قومه، وتصلبّهم في نبذ دعوته، فأنبأه الله بأنّ هؤلاء أعداؤه، وأن عداوة أمثالهم سنة من سنن الله تعالى في ابتلاء أنبيائه كلّهم، فما منهم أحد إلاّ كان له أعداء، فلم تكن عداوة هؤلاء للنبيء عليه الصلاة والسلام بِدْعا من شأن الرّسل. فمعنى الكلام ألَسْتَ نبيئا وقد جعلنا لكلّ نبيء عدوّا ــــ إلى آخره. والإشارة بقوله { وكذلك } إلى الجعل المأخوذ من فعل { جعلنا } كما تقدّم في قوله تعالىوكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } البقرة 143. فالكاف في محل نصب على أنّه مفعول مطلق لفعل { جعلنا }. وقوله { عدواً } مفعول { جعلنا } الأوّل، وقوله { لكل نبي } المجرور مفعول ثان لــــ { جعلنا } وتقديمه على المفعول الأول للاهتمام به، لأنّه الغرض المقصود من السّياق، إذ المقصود الإعلام بأنّ هذه سنّة الله في أنبيائه كلّهم، فيحصل بذلك التَّأسِّي والقُدوة والتّسلية ولأن في تقديمه تنبيهاً ـــ من أول السمع ـــ على أنه خبر، وأنه ليس متعلّقا بقوله { عدواً } كيلا يخال السّامع أنّ قوله { شياطين الإنس } مفعول لأنّه يُحَوّل الكلام إلى قصد الإخبار عن أحوال الشّياطين، أو عن تعيين العدوّ للأنبياء من هو، وذلك ينافي بلاغة الكلام. و { شياطين } بدل من { عدواً } وإنَّما صيغ التّركيب هكذا لأنّ المقصود الأوّل الإخبار بأنّ المشركين أعداء للرّسول صلى الله عليه وسلم فمن أعرب { شياطين } مفعولاً لــــ { جَعل } و { لكل نبي } ظرفاً لغواً متعلِّقاً بــــ { عدوّا } فقد أفسد المعنى. والعَدُوّ اسم يقع على الواحد والمعتددّ، قال تعالىهم العدوّ فاحذرهم } المنافقون 4 وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالىفإن كان من قوم عدوّ لكم } في سورة النساء 92. والشّيطان أصله نوع من الموجودات المجرّدة الخفية، وهو نوع من جنس الجنّ، وقد تقدّم عند قوله تعالىواتبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان } البقرة 102. ويطلق الشّيطان على المضلّل الّذي يفعل الخبائث من النّاس على وجه المجاز. ومنه «شياطين العرب» لجماعة من خباثهم، منهم ناشب الأعور، وابنُه سعد بن ناشب الشّاعر، وهذا على معنى التّشبيه، وشاع ذلك في كلامهم. والإنس الإنسان وهو مشتقّ من التأنّس والإلْف، لأنّ البشر يألف بالبشر ويأنس به، فسمّاه إنساً وإنساناً. و«شياطين الإنس» استعارة للنّاس الّذين يفعلون فعل الشّياطين من مكر وخديعة. وإضافة شياطين إلى الإنس إضافة مجازية على تقدير مِن التبعيضية مجازا، بناء على الاستعارة التي تقتضي كون هؤلاء الإنس شياطين، فهم شياطين، وهم بعض الإنس، أي أنّ الإنس لهم أفراد متعارفة، وأفراد غير متعارفة يطلق عليهم اسم الشّياطين، فهي بهذا الاعتبار من إضافة الأخصّ من وجهٍ إلى الأعمّ من وجهٍ، وشياطين الجنّ حقيقة، والإضافة حقيقة، لأنّ الجنّ منهم شياطين، ومنهم غير شياطين، ومنهم صالحون، وعداوة شياطين الجنّ للأنبياء ظاهرة، وما جاءت الأنبياء إلاّ للتحذير من فعل الشّياطين، وقد قال الله تعالى لآدم

السابقالتالي
2