الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }

جملة { وَلَوْ أَنَّنَا } معطوفة على جملةوما يُشعركم } الأنعام 109 باعتبار كون جملةوما يُشعركم } الأنعام 109 عطفاً على جملةقل إنّما الآيات عند الله } الأنعام 109، فتكون ثلاثتها ردّا على مضمون جملةوأقسموا بالله جَهْد أيمانهم لئن جاءتهم آية } الأنعام 109 إلخ، وبيانا لجملةوما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } الأنعام 109. روى عن ابن عبّاس أنّ المستهزئين، الوليدَ بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسودَ بن عَبْدِ يغوثَ، والأسودَ بنَ المطّلب، والحارثَ بن حنظلة، من أهل مكّة. " أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رَهْط من أهل مكّة فقالوا " أرِنا الملائكةَ يشهدون لك أوْ ابعث لنا بعض موتانا فنسألهم أحقّ ما تقول " ، وقيل إن المشركين قالوا «لا نؤمن لك حتَّى يُحشر قُصَيٌ فيُخبِرَنا بصِدْقك أو ائتِنا بالله والملائكة قبيلاً ــــ أي كفيلاً ــــ» فنزل قوله تعالى { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } للردّ عليهم. وحكى الله عنهموقالوا لن نؤمن لك } في سورة الإسراء 90 إلى قولهأو تأتي بالله والملائكة قبيلا } في سورة الإسراء 92. وذَكر ثلاثة أشياء من خوارق العادات مسايرة لمقترحاتهم، لأنَّهم اقترحوا ذلك. وقوله { وحَشَرنا عليهم كلّ شيء } يشير إلى مجموع ما سألوه وغيرِه. والحَشر الجمع، ومنهوحُشر لسليمان جنوده } النمل 17. وضمّن معنى البعث والإرسَالِ فعُدّي بعلَى كما قال تعالىبعثنا عليكم عباداً لنا } الإسراء 5. و { كل شيء } يعمّ الموجودات كلّها. لكن المقام يخصّصه بكلّ شيء ممّا سألوه، أو من جنس خوارق العادات والآيات، فهذا من العام المراد به الخصوص مثل قوله تعالى، في ريح عادتدمر كل شيء بأمر ربها } الأحقاف 25 والقرينة هي ما ذكر قبله من قوله { ولو أنَّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى }. وقوله { قِبَلاً } قرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر ــــ بكسر القاف وفتح الباء ــــ، وهو بمعنى المقابلة والمواجهة، أي حشرنا كلّ شيء من ذلك عياناً. وقرأه الباقون ــــ بضمّ القاف والباء ــــ وهو لغة في قِبَل بمعنى المواجهة والمعاينة وتأوّلها بعض المفسّرين بتأويلات أخرى بعيدة عن الاستعمال، وغير مناسبة للمعنى. و { ما كانوا ليؤمنوا } هو أشدّ من لا يؤمنون تقوية لنفي إيمانهم، مع ذلك كلّه، لأنَّهم معاندون مكابرون غير طالبين للحقّ، لأنَّهم لو طَلَبوا الحقّ بإنصاف لكفتْهم معجزة القرآن، إنْ لَمْ يكفهم وضوح الحقّ فيما يدْعُو إليه الرّسول عليه الصلاة والسلام. فالمعنى الإخبار عن انتفاء إيمانهم في أجدر الأحوال بأن يؤمن لها من يؤمن، فكيف إذا لم يكن ذلك. والمقصود انتفاء إيمانهم أبداً. { ولو } هذه هي المسماة { لَوْ } الصهيبية، وسنشرح القول فيها عند قوله تعالىولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } في سورة الأنفال 23. وقوله { إلا أن يشاء الله } استثناء من عموم الأحوال التي تضمّنها عموم نفي إيمانهم، فالتّقدير إلاّ بمشيئة الله، أي حال أن يشاء الله تغيير قلوبهم فيؤمنوا طوعاً، أو أن يكرههم على الإيمان بأن يسلّط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما أراد الله ذلك بفتح مكّة وما بعده.

السابقالتالي
2