الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

يجوز أن يكون عطفاً على جملةأنّها إذا جاءت لا يؤمنون } الأنعام 109 فتكون بياناً لقولهلا يؤمنون } الأنعام 109، أي بأن نعطِّل أبصارَهم عن تلك الآية وعقولهم عن الاهتداء بها فلا يبصُرون ما تحتوي عليه الآية من الدّلائل ولا تفقه قلوبهم وجه الدّلالة فيتعطَّل تصديقهم بها، وذلك بأن يحرمهم الله من إصلاح إدراكهم، وذلك أنّهم قد خُلقت عقولهم نابية عن العلم الصّحيح بما هيّأ لها ذلك من انسلالها من أصول المشركين، ومن نشأتها بين أهل الضّلال وتلقّي ضلالتهم، كما بيّنتُه آنفاً. فعبّر عن ذلك الحال المخالف للفطرة السّليمة بأنّه تقليب لعقولهم وأبصارهم، ولأنّها كانت مقلوبة عن المعروف عند أهل العقول السّليمة، وليس داعي الشّرك فيها تقليباً عن حالة كانت صالحة لأنّها لم تكن كذلك حيناً، ولكنّه تقليب لأنّها جاءت على خلاف ما الشّأن أن تجيء عليه. وضمير { به } عائد إلى القرآن المفهوم من قولهلئن جاءتهم آية } الأنعام 109 فإنّهم عَنوا آية غير القرآن. والكاف في قوله { كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة } لتشبيه حالة انتفاء إيمانهم بعد أن تجيئهم آية ممّا اقترحوا. والمعنى ونقلِّب أيديهم وأبصارهم فلا يؤمنون بالآية الّتي تجيئهم مثلَما لم يؤمنوا بالقرآن من قبلُ، فتقليب أفئدتهم وأبصارهم على هذا المعنى يحصل في الدّنيا، وهو الخذلان. ويجوز أن تكون جملة { ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم } مستأنفة والواو للاستئناف، أو أن تكون معطوفة على جملةلا يؤمنون } الأنعام 109. والمعنى ونحن نقلّب أفئدتهم وأبصارهم، أي في نار جهنّم، كناية عن تقليب أجسادهم كلّها. وخصّ من أجسادهم أفئدتُهم وأبصارهُم لأنّها سبب إعراضهم عن العبرة بالآيات، كقوله تعالىسحروا أعْيُن النّاس } الأعراف 116، أي سحروا النّاسَ بما تُخيِّلُه لهم أعينهم. والكاف في قوله { كما لم يؤمنوا به } على هذا الوجه للتّعليل كَقولهواذكروه كما هداكم } البقرة 198. وأقول هذا الوجه يناكده قوله { أوّل مرّة } إذ ليس ثمّة مرّتان على هذا الوجه الثّاني، فيتعيّن تأويل { أوّل مرّة } بأنّها الحياة الأولى في الدّنيا. والتّقليب مصدر قلّب الدالّ على شدّة قلب الشّيء عن حاله الأصليّة. والقلب يكون بمعنى جعل المقابل للنظر من الشيء غير مقابل، كقوله تعالىفأصبح يُقلِّب كفَّيْه على ما أنفق فيها } الكهف 42، وقولهم قَلَب ظَهْر المِجَن، وقريب منه قولهقد نرى تقلّب وجهك في السّماء } البقرة 144 ويكون بمعنى تغيير حالة الشيء إلى ضدّها لأنّه يشبه قلب ذات الشّيء. والكاف في قوله { كما لم يؤمنوا به } الظّاهر أنّها للتّشبيه في محلّ حال من ضميرلا يؤمنون } الأنعام 109، و«ما» مصدريّة. والمعنى لا يؤمنون مثل انتفاء إيمانهم أوّل مرّة. والضّمير المجرور بالباء عائد إلى القرآن لأنّه معلوم من السّياق كما في قولهوكذّب به قومك } الأنعام 66، أي أنّ المكابرة سجيّتهم فكما لم يؤمنوا في الماضي بآية القرآن وفيه أعظم دليل على صدق الرّسول ـــ عليه الصّلاة والسّلام ـــ لا يؤمنون في المستقبل بآيةٍ أخرى إذا جاءتهم.

السابقالتالي
2