الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

عطف جملة { وأقسموا } على جملةاتَّبِعْ ما أوحِي إليك من ربّك } الأنعام 106 الآية. والضّمير عائد إلى القوم في قولهوكذّب به قومك وهو الحقّ } الأنعام 66 مثل الضّمائر الّتي جاءت بعد تلك الآية ومعنى { لئن جاءتهم آية } آية غيرُ القرآن. وهذا إشارة إلى شيء من تعلّلاتهم للتمادي على الكفر بعد ظهور الحجج الدّامغة لهم، كانوا قد تعلّلوا به في بعض تورّكهم على الإسلام. فروى الطّبري وغيره عن مجاهد، ومحمدّ بن كعب القُرظِي، والكلبي، يزيد بعضهم على بعض أنّ قريشاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية مثل آية موسى ـــ عليه السّلام ـــ إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه العيون، أو مثل آية صالح، أو مثل آية عيسى ـــ عليهم السّلام ـــ، وأنّهم قالوا لمّا سمعوا قوله تعالىإنْ نشأ ننزّل عليهم من السّماء آية فظلَّت أعناقهم لها خاضعين } الشعراء 4 أقسموا أنّهم إن جاءتهم آية كما سألوا أو كما تُوُعدوا ليوقِنُنّ أجمعون، وأنّ رسول الله ـــ عليه الصلاة والسّلام ـــ سأل الله أن يأتيهم بآية كما سألوا، حرصاً على أن يؤمنوا. فهذه الآية نازلة في ذلك المعنى لأنّ هذه السّورة جمعت كثيراً من أحوالهم ومحاجّاتهم. والكلام على قوله { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } هو نحو الكلام على قوله في سورة العقود 53أهؤلاء الّذين أقسموا بالله جهد أيمانهم } والأيمان تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالىلا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } في سورة البقرة 225. وجملة { لئن جاءتهم آية } إلخ مبيّنة لجملة { وأقسموا بالله }. واللاّم في { لئن جاءتهم آية } موطّئة للقسم، لأنّها تدلّ على أنّ الشّرط قد جعل شَرطاً في القسم فتدلّ على قَسَم محذوف غالباً، وقد جاءت هنا مع فعل القسم لأنّها صارت ملازمة للشّرط الواقع جواباً للقسم فلم تنفكّ عنه مع وجود فعل القسم. واللاّم في { ليومننّ بها } لام القسم، أي لام جوابه. والمراد بالآية ما اقترحوه على الرّسول صلى الله عليه وسلم يَعنُون بها خارق عادة تدلّ على أنّ الله أجاب مقترحهم ليصدّق رسوله ـــ عليه الصلاة والسّلام ـــ، فلذلك نُكّرت { آية } ، يعني آيَّةَ آيةٍ كانت من جنس ما تنحصر فيه الآيات في زعمهم. ومجيء الآية مستعار لظهورها لأنّ الشّيء الظّاهر يشبه حضور الغائب فلذلك يستعار له المجيء. وتقدّم بيان معنى الآية واشتقاقها عند قوله تعالىوالّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون } في سورة البقرة 39. ومعنى كون الآيات عند الله أنّ الآيات من آثار قدرة الله وإرادته، فأسباب إيجاد الآيات من صفاته، فهو قادر عليها، فلأجل ذلك شُبّهت بالأمور المدّخرة عنده، وأنّه إذا شاء إبرازَها أبرزها للنّاس، فكلمة عند } هنا مجاز.

السابقالتالي
2 3 4