الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }

هذا انتقال من محاجّة المشركين، وإثبات الوحدانيّة لله بالربوبيّة من قولهإنّ الله فالق الحبّ والنَّوى } الأنعام 95 إلى قولهوهو اللّطيف الخبير } الأنعام 103. فاستؤنف الكلام بتوجيه خطاببٍ للنّبيء ـــ عليه الصّلاة والسّلام ـــ مقولٍ لفعلِ أمر بالقول في أوّل الجملة، حُذف على الشّائع من حذف القول للقرينة في قوله { وما أنا عليكم بحفيظ } الأنعام 104. ومناسبة وقوع هذا الاستئناف عقب الكلام المسوق إليهم من الله تعالى أنّه كالتّوقيف والشّرح والفذلكة للكلام السّابق فيقدر قُل يا محمّد قد جاءكم بصائر. وبصائر جمع بصيرة، والبصيرة العقل الّذي تظهر به المعاني والحقائق، كما أنّ البصر إدراك العين الّذي تتجلّى به الأجسام، وأطلقت البصائر على ما هو سبب فيها. وإسناد المجيء إلى البصائر استعارة للحصول في عقولهم، شُبّه بمجيء شيء كان غائباً، تنويهاً بشأن ما حصل عندهم بأنّه كالشّيء الغائب المتوقَّع مجيئه كقوله تعالىجاء الحقّ وزهق الباطل } الإسراء 81. وخلو فعل «جاء» عن علامة التّأنيث مع أنّ فاعله جمعُ مؤنّث لأنّ الفعل المسند إلى جمع تكسير مطلقاً أو جمع مؤنّث يجوز اقترانه بتاء التّأنيث وخلوُّه عنها. ومن ابتدائيّة تتعلّق بـ«جاء» أو صفة لــ { بصائر } ، وقد جعل خطاب الله بها بمنزلة ابتداء السّير من جَانبه تعالى، وهو منزّه عن المكان والزّمان، فالابتداء مجاز لغوي، أو هو مجاز بالحذف بتقدير مِن إرادةِ ربّكم. والمقصود التّنويه بهذه التّعاليم والذّكريات الّتي بها البصائر، والحثّ على العمل بها، لأنّها مسداة إليهم ممّن لا يقع في هديه خلل ولا خطأ، مع ما في ذكر الربّ وإضافته من تربية المهابة وتقوية داعي العمل بهذه البصائر. ولذلك فرّع عليه قوله { فمن أبصر فلنفسه } ، أي فلا عذر لكم في الاستمرار على الضّلال بعد هذه البصائر، ولا فائدة لغيركم فيها «فمن أبصر فلنفسه أبصر»، أي من عَلِم الحقّ فقد عَلِم علماً ينفع نفسه، { ومن عمي } أي ضلّ عن الحقّ فقد ضلّ ضَلالاً وزره على نفسه. فاستعير الإبصار في قوله { أبصر } للعلم بالحقّ والعمللِ به لأنّ المهتدي بهذا الهدي الواردِ من الله بمنزلة الّذي نُوّر له الطّريق بالبدر أو غيره، فأبصره وسار فيه، وبهذا الاعتبار يجوز أن يكون { أبصر } تمثيلاً موجزاً ضمّن فيه تشبيه هيئة المرشَد إلى الحقّ إذا عمِل بها أرشِد به، بهيئة المبصر إذا انتفع ببصره. واستعير العمى في قوله { عَمِيَ } للمكابرة والاستمرار على الضّلال بعد حصول ما شأنه أن يُقلعه لأنّ المكابر بعد ذلك كالأعمى لا ينتفع بإنارة طريق ولا بهَدْي هاد خِرّيتتٍ. ويجوز اعتبار التمّثيليّة فيه أيضاً كاعتبارها في ضدّه السابق. واستعمل اللاّم في الأوّل استعارة للنّفع لدلالتها على المِلك وإنّما يُملك الشّيءُ النّافعُ المدّخر للنّوائب، واستعيرت على في الثّاني للضرّ والتّبعة لأنّ الشّيء الضّارّ ثقيل على صاحبه يكلّفه تَعباً وهو كالحِمل الموضوع على ظهره، وهذا معروف في الكلام البليغ، قال تعالى

السابقالتالي
2