الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَٰحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

جملة مستأنفة وهذا شروع في الإخبار بعظيم قدرة الله تعالى، وهي تفيد مع ذلك تقوية التّنزيه في قولهسبحانه وتعالى عمّا يصفون } الأنعام 100 فتتنزّل منزلة التَعليل لمضمون ذلك التّنزيه بمضمونها أيضاً، وبهذا الوجه رَجَح فصلُها على عطفها فإنّ ما يصفونه هو قولهم إنّ له ولداً وبنات، لأنّ ذلك التّنزيه يتضمّن نفي الشيء المنزّه عنه وإبطاله، فعُلّ الإبطال بأنّه خالقُ أعظم المخلوقات دلالة على القدرة فإذا كنتم تدّعون بنوّة الجنّ والملائكة لأجل عظمتها في المخلوقات وأنتم لا ترون الجنّ ولا الملائكة فلماذا لم تدّعوا البنوّة للسماوات والأرض المشاهدة لكم وأنتم ترونها وترون عظمها. فهذا الإبطال بمنزلة النّقض في علم الجدل والمناظرة. وقوله { بديع } خبر لمبتدأ ملتزم الحذف في مثله، وهو من حذف المسند إليه الجاري على متابعة الاستعمال عندما يتقدّم الحديث عن شيء ثمّ يعقّب بخبر عنه مفردٍ، كما تقدّم في مواضع. وتقدّم الكلام على { بديع السّماوات والأرض } عند قوله تعالىبل له ما في السّماوات والأرض كلّ له قانتون بديع السّماوات والأرض } في سورة البقرة 116، 117. والاستدلال على انتفاء البنوة عن الله تعالى بإبدَاع السّماوات والأرض لأنّ خلْق المحلّ يقتضي خلق الحالّ فيه، فالمشركون يقولون بأنّ الملائكة في السّماء وأنّ الجنّ في الأرض والفيافي، فيلزمهم حدوث الملائكة والجنّ وإلاّ لَوُجد الحالّ قبل وجود المحلّ، وإذا ثبت الحدوث ثبت انتفاء البنوّة لله تعالى، لأنّ ابن الإله لا يكون إلاّ إلهاً فيلزم قِدمه، كيف وقد ثبت حدوثه، ولذلك عقّب قولهماتّخذ الله ولداً } البقرة 116 بقولهسبحانه بل له ما في السّماوات والأرض كلّ له قَانِتُون } في سورة البقرة 116. وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالىالحمد لله الَّذي خلق السّماوات والأرض } في أوّل هذه السّورة 1. وجملة { أنَّى يكون له ولد } تتنزّل منزلة التّعليل لمضمون التنزيه مِن الإبطال، وإنّما لم تعطف على الّتي قبلها لاختلاف طريق الإبطال لأنّ الجملة الأولى أبطلتْ دعواهم من جهة فساد الشّبهة فكانت بمنزلة النقْض في المناظرة. وهذه الجملة أبطلت الدّعوى من جهة إبطال الحقيقة فكأنّها من جهة خطأ الدّليل، لأنّ قولهم بأنّ الملائكة بنات الله والجنّ أبناءُ الله يتضمّن دليلاً محذوفاً على البنوّة وهو أنّهم مخلوقات شريفة، فأبطل ذلك بالاستدلال بما ينافي الدّعوى وهو انتفاء الزّوجة الّتي هي أصل الولادة، فهذا الإبطال الثّاني بمنزلة المعارضة في المناظرة. و { أنّى } بمعنى من أيْن وبمعنى كَيْف. والواو في { ولم تكن له صاحبة } واو الحال لأنّ هذا معلوم للمخاطبين فلذلك جيء به في صيغة الحال. والصّاحبة الزّوجة لأنّها تصاحب الزّوج في معظم أحْواله. وقد جعل انتفاء الزّوجة مسلّماً لأنّهم لم يدعوه فلزمهم انتفاء الولد لانتفاء شرط التولّد، وهذا مبنيّ على المحاجّة العرفيّة بناء على ما هو المعلوم في حقيقة الولادة.

السابقالتالي
2