الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ }

عطف على الجمل قبله عطف القصّة على القصّة، فالضّمير المرفوع في { جعلوا } عائد إلى { قومُك } من قوله تعالىوكذّب به قومك } الأنعام 66. وهذا انتقال إلى ذكر شِرك آخر من شرك العرب وهو جعلهم الجِنّ شركاءَ لله في عبادتهم كما جعلوا الأصنام شركاء له في ذلك. وقد كان دين العرب في الجاهليّة خليطاً من عبادة الأصنام ومن الصّابئيّة عبادة الكواكب وعبادة الشّياطين، ومجوسيّة الفرس، وأشياء من اليهوديّة، والنّصرانيّة، فإنّ العرب لجهلهم حينئذٍ كانوا يتلقّون من الأمم المجاورة لهم والّتي يرحلون إليها عقائد شتّى متقارباً بعضها ومتباعداً بعض، فيأخذونه بدون تأمّل ولا تمحيص لفقد العلم فيهم، فإنّ العلم الصّحيح هو الذّائد عن العقول من أنّ تعشّش فيها الأوهام والمعتقدات الباطلة، فالعرب كان أصل دينهم في الجاهليّة عبادة الأصنام وسرت إليهم معها عقائد من اعتقاد سلطة الجنّ والشّياطين ونحو ذلك. فكان العرب يثبتون الجنّ وينسبون إليهم تصرّفات، فلأجل ذلك كانوا يتّقون الجنّ وينتسبون إليها ويتّخذون لها المَعاذات والرّقَى ويستجلبون رضاها بالقرابين وترك تسميّة الله على بعض الذبائح. وكانوا يعتقدون أنّ الكاهن تأتيه الجنّ بالخبر من السّماء، وأنّ الشّاعر له شيطان يوحى إليه الشّعر، ثمّ إذ أخذوا في تعليل هذه التصرّفات وجمعوا بينها وبين معتقدهم في ألوهيّة الله تعالى تعلّلوا لذلك بأنّ للجنّ صلة بالله تعالى فلذلك قالوا الملائكة بنات الله مِن أمّهاتتٍ سَرَوات الجنّ، كما أشار إليه قوله تعالىوجعلوا بينه وبينَ الجِنّة نسباً } الصافات 158 وقالفاستفتهم ألرَبِّك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ألاَ إنّهم من إفكهم ليقولون ولد اللّهُ وإنّهم لكاذبون } الصافات 149 - 152. ومن أجل ذلك جَعَل كثير من قبائل العرب شيئاً من عبادتهم للملائكة وللجنّ. قال تعالىويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون } سبأ 40، 41. والّذين زعموا أنّ الملائكة بنات الله هم قريش وجُهينة وبنو سلمة وخزاعة وبنو مُليح. وكان بعض العرب مجوساً عبدوا الشّيطان وزعموا أنّه إلهُ الشرّ وأنّ الله إله الخير، وجعلوا الملائكة جند اللّهِ والجنّ جندَ الشّيطان. وزعموا أنّ الله خلق الشّيطان من نفسه ثمّ فوّض إليه تدبير الشرّ فصار إله الشرّ. وهم قد انتزعوا ذلك من الدّيانة المزدكيّة القائلة بإلهين إله للخير وهو يَزْدَانْ. وإلهٍ للشرّ وهو أهْرُمُنْ وهو الشّيطان. فقوله { الجنّ } مفعول أوّل { جعلوا } و { شركاء } مفعوله الثّاني، لأنّ الجنّ المقصود من السّياق لا مطلق الشّركاء، لأنّ جعل الشركاء لله قد تقرّر من قبل. و { لله } متعلّق بـ { شركاء }. وقدم المفعول الثّاني على الأوّل لأنّه محلّ تعجيب وإنكار فصار لذلك أهمّ وذكره أسبق.

السابقالتالي
2 3 4