الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

استئناف ابتدائي هو تخلص من قوله تعالىأحصاه الله ونَسُوه } المجادلة 6 إلى ذكر علم الله بأحوال المنافقين وأحلافهم اليهود. فكان المنافقون يناجي بعضهم بعضاً ليُرِيَ للمسلمين مودة بعض المنافقين لبعض فإن المنافقين بتناجيهم يظهرون أنهم طائفة أمرها واحد وكلمتها واحدة، وهم وإن كانوا يظهرون الإِسلام يحِبّون أن تكون لهم خيفة في قلوب المسلمين يتقون بها بأسهم إن اتهَموا بعضهم بالنفاق أو بدرت من أحدهم بادرة تنمّ بنفاقه، فلا يُقدم المؤمنون على أذاه لعلمهم بأن له بطانة تدافع عنه. وكانوا إذا مرّ بهم المسلمون نظروا إليهم فحسب المارّون لعلّ حدثاً حدث من مصيبة، وكان المسلمون يومئذٍ على توقع حرب مع المشركين في كل حين فيتوهّمون أن مناجاة المتناجين حديث عن قرب العدوّ أو عن هزيمة للمسلمين في السرايَا التي يَخرجون فيها، فنزلت هذه الآيات لإِشعار المنافقين بعلم الله بماذا يتناجون، وأنه مُطلع رسوله على دخيلتهم ليكفُّوا عن الكيد للمسلمين. فهذه الآية تمهيد لقوله تعالىألم ترَ إلى الذين نُهُوا عن النجوى } الآية المجادلة 8. و { ألم ترَ } من الرؤية العلمية لأن علم الله لا يُرى وسَدَّ المصدر مسدَّ المفعول. والتقدير ألم ترَ الله عالماً. و { ما في السمٰوات وما في الأرض } يعمّ المبصرات والمسموعات فهو أعم من قولهوالله على كل شيء شهيد } المجادلة 6 لاختصاصه بعلم المشاهدات لأن الغرض المفتتح به هذه الجملة هو علم المسموعات. وجملة { ما يكون من نجوى ثلاثة } إلى آخرها بدل البعض من الكل فإن معنى قوله { إلا هو رابعهم }. وقوله { إلا هو سادسهم } وقوله { إلا هو معهم } ، أنه مطلع على ما يتناجون فيه فكأنه تعالى نجيّ معهم. و { ما } نافية. و { يكون } مضارع كان التامة، و { من } زائدة في النفي لقصد العموم، و { نجوى } في معنى فاعل { يكون }. وقرأ الجمهور { يكون } بياء الغائب لأن تأنيث { نجوى } غير حقيقي، فيجوز فيه جري فعله على أصل التذكير ولا سيما وقد فصل بينه وبين فاعله بحرف { من } الزائدة. وقرأه أبو جعفر بتاء المؤنث رعياً لصورة تأنيث لفظه. والنجوى اسم مصدر ناجاهُ، إذا سارَّه. و { ثلاثة } مضاف إليه { نجوى }. أي ما يكون تناجي ثلاثة من الناس إلا الله مطلع عليهم كرابع لهم، ولا خمسة إلا هو كسادس لهم، ولا أدنى ولا أكثر إلاّ هو كواحد منهم. وضمائر الغيبة عائدة إلى { ثلاثةٍ } وإلى { خمسة } وإلى { ذلك } و { أكثر }. والمقصود من هذا الخبر الإِنذار والوعيد. وتخصيص عددي الثلاثة والخمسة بالذكر لأن بعض المتناجين الذي نزلت الآية بسببهم كانوا حلفاً بعضها من ثلاثة وبعضها من خمسة. وقال الفراء المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود. وفي «الكشاف» عن ابن عباس نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو بنِ عمير من ثقيف وصفوان بن أمية السلمي حليف بني أسد كانوا يتحدثون فقال أحدهم أَترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً.

السابقالتالي
2