استئناف ابتدائي ناشىء عما تقدم من التحريض على الإِنفاق في سبيل الله وعن ذكر الفتح وعن تذييل ذلك بقوله{ ومن يتولّ فإن الله هو الغني الحميد } الحديد 24، وهو إعذار للمتولين من المنافقين ليتداركوا صلاحهم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتدبر في هدي القرآن وإنذار لهم إن يرعووا وينصاعوا إلى الحجة الساطعة بأنه يكون تقويم عوجهم بالسيوف القاطعة وهو ما صرح لهم به في قوله في سورة الأحزاب 60، 61{ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً } وقوله في سورة التحريم 9{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم } لئلا يحسبوا أن قوله{ ومن يتولّ فإن الله هو الغني الحميد } الحديد 24 مجرد متاركة فيطمئنوا لذلك. وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق راجع إلى ما تضمنه الخبر من ذكر ما في إرسال رسل الله وكتبه من إقامة القسط للناس، ومن التعريض بحمل المعرضين على السيف إن استمروا على غلوائهم. وجمع الرسل هنا لإِفادة أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل، وأن مكابرة المنافقين عماية عن سنة الله في خلقه فتأكيد ذلك مبني على تنزيل السامعين منزلة من ينكر أن الله أرسل رسلاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم لأن حالهم في التعجب من دعواه الرسالة كحال من ينكر أن الله أرسل رسلاً من قبل. وقد تكرر مثل هذا في مواضع من القرآن كقوله تعالى{ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات } آل عمران 183. والبينات الحجج الدالّة على أن ما يدعون إليه هو مراد الله، والمعجزات داخلة في البينات. وتعريف { الكتاب } تعريف الجنس، أي وأنزلنا معهم كتباً، أي مثل القرآن. وإنزال الكتاب تبليغ بواسطة المَلك من السماء، وإنزال الميزان تبليغ الأمر بالعدل بين الناس. والميزان مستعار للعدل بين الناس في إعطاء حقوقهم لأن مما يقتضيه الميزان وجود طرفين يراد معرفة تكافئهما، قال تعالى{ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } النساء 58. وهذا الميزان تبيّنه كُتب الرسل، فذكره بخصوصه للاهتمام بأمره لأنه وسيلة انتظام أمور البشر كقوله تعالى{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } النساء 105 وليس المراد أن الله ألهمهم وضع آلات الوزن لأن هذا ليس من المهم، وهو مما يشمله معنى العدل فلا حاجة إلى التنبيه عليه بخصوصه. ويتعلق قوله { ليقوم الناس بالقسط } بقوله { وأنزلنا معهم }. والقيام مجاز في صلاح الأحوال واستقامتها لأنه سبب لتيسير العمل وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى{ ويقيمون الصلاة } في أوائل البقرة 3. والقسط العدل في جميع الأمور، فهو أعم من الميزان المذكور لاختصاصه بالعدل بين متنازعين، وأما القسط فهو إجراء أمور الناس على ما يقتضيه الحق فهو عدل عام بحيث يقدر صاحب الحق منازعاً لمن قد احتوى على حقه.