الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

افتتاح الكلام بــــ { اعلموا } ونحوه يؤذن بأن ما سيلقى جدير بتوجه الذهن بشراشره إليه، كما تقدم عند قوله تعالىواعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } في سورة البقرة 235 وقولهواعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خُمسَهُ } الآية في سورة الأنفال 41. وهو هنا يشير إلى أن الكلام الذي بُعده مغزى عظيم غير ظاهرِ، وذلك أنه أريد به تمثيل حال احتياج القلوب المؤمنة إلى ذكر الله بحال الأرض الميتة في الحاجة إلى المطر، وحالِ الذكر في تزكية النفوس واستنارتها بحال الغَيث في إحياء الأرض الجدبة. ودل على ذلك قوله بعده { قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون } ، وإلا فإن إحياء الله الأرض بعد موتها بما يصيبها من المطر لا خفاء فيها فلا يقتضي أن يفتتح الإخبار عنه بمثل { اعلموا } إلاّ لأن فيه دلالة غير مألوفة وهي دلالة التمثيل، ونظيره " قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود البَدري وقد رآه لَطم وجه عبدٍ له «اعلَمْ أبا مسعود، اعلَمْ أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا» " فالجملة بمنزلة التعليل لجملة { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلى قولهفقست قلوبهم } الحديد 16 لما تتضمنه تلك من التحريض على الخشوع لذكر الله، ولكن هذه بمنزلة العلة فَصلت ولم تعطف، وهذا يقتضي أن تكون مما نزل مع قوله تعالى { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم } الآية. والخطاب في قوله { اعلموا } للمؤمنين على طريقة الالتفات إقبالاً عليهم للاهتمام. وقوله { أن الله يحي الأرض بعد موتها } استعارة تمثيلية مصرّحة ويتضمن تمثيلية مَكْنية بسبب تضمنه تشبيه حال ذِكر الله والقرآن في إصلاح القلوب بحال المطر في إصلاحه الأرض بعد جدبها. وطُوي ذكر الحالة المشبه بها ورُمز إليها بلازمها وهو إسناد إحياء الأرض إلى الله لأن الله يحيي الأرض بعد موتها بسبب المطر كما قال تعالىوالله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } النحل 65. والمقصود الإِرشاد إلى وسيلة الإِنابة إلى الله والحث على تعهد النفس بالموعظة، والتذكير بالإِقبال على القرآن وتدبره وكلامِ الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه وأن في اللجأ إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نجاة وفي المفزع إليهما عصمة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتابَ الله وسنتي " وقال " مَثَل ما بَعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقَيّة قبِلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشْب، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناسَ فشربوا وسقَوْا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قِيعانٌ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك مثَل من فَقُهَ في دين الله وَنَفَعه ما بعثني الله به فَعلِم وعلَّم، ومثلُ من لم يرفع لذلك رأساً ولم يقبَل هدى الله الذي أرسلتُ به "

السابقالتالي
2