الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } * { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } * { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } * { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } * { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ }

تفريع علىكذبت قبلهم قوم نوح } القمر 9 وما تفرع عليه. والمغلوب مجاز، شبه يأسه من إجابتهم لدعوته بحال الذي قاتل أو صارع فغلبه مقاتله، وقد حكى الله تعالى في سورة نوح كيف سلك مع قومه وسائل الإقناع بقبول دعوته فأعيته الحيل. و { أنى } بفتح الهمزة على تقدير باء الجر محذوفة، أي دعا بأني مغلوب، أي بمضمون هذا الكلام في لغته. وحذف متعلق { فانتصر } للإِيجاز وللرعي على الفاصلة والتقدير فانتصر لي، أي انصرني. وجملة { ففتحنا أبواب السماء } إلى آخرها مفرعة على جملة { فدعا ربه } ، ففهم من التفريع أن الله استجاب دعوته وأن إرسال هذه المياه عقاب لقوم نوح. وحاصل المعنى فأرسلنا عليهم الطوفان بهذه الكيفية المحكمة السريعة. وقرأ الجمهور { ففتحنا } بتخفيف التاء. وقرأه ابن عامر بتشديدها على المبالغة. والفتح بمعنى شدة هطول المطر. وجملة { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } مركب تمثيلي لهيئة اندفاق الأمطار من الجو بهيئة خروج الجماعات من أبواب الدار على طريقة
وسالتْ بأعناق المطيّ الأباطح   
والمنهمر المنصب، أي المصبوب يقال عمرَ الماء إذا صبه، أي نازل بقوة. والتفجير إسالة الماء، يقال تفجر الماء، إذا سال، قال تعالىحتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } الإسراء 90. وتعدية { فجّرنا } إلى اسم الأرض تعدية مجازية إذ جعلت الأرض من كثرة عيونها كأنها عين تتفجر. وفي هذا إجمال جيء من أجله بالتمييز له بقوله { عيوناً } لبيان هذه النسبة، وقد جعل هذا ملحقاً بتمييز النسبة لأنه محول عن المفعول إذ المعنى وفجرنا عيون الأرض، وهو مثل المحول عن الفاعل في قوله تعالىواشتعل الرأس شيباً } مريم 4، أي شيب الرأس إذ لا فرق بينهما، ونكتة ذلك واحدة. قال في «المفتاح» «إسناد الاشتعال إلى الرأس لإِفادة شُمول الاشتعالِ الرأسَ إذ وزان اشتعل شيبُ الرأس، واشتعل الرأس شيباً وزان اشتعلت النار في بيتي واشتعل بيتي ناراً» اهـــــ. والتقاء الماء تجمع ماءِ الأمطار مع ماء عيون الأرض فالإلتقاء مستعار للاجتماع، شبه الماء النازل من السماء والماء الخارج من الأرض بطائفتين جاءت كل واحدة من مكان فالتقتا في مكان واحد كما يلتقي الجيشان. والتعريف في { الماء } للجنس. وعلم من إسناد الإلتقاء أنهما نوعان من الماء ماء المطر وماء العيون. و { على } من قوله { على أمر } يجوز أن تكون بمعنى في كقوله تعالىودخل المدينة على حين غفلة من أهلها } القصص 15، وقول الفرزدق
على حالةٍ لو أن في البحر حاتماً على جوده لضنَّ بالماء حاتم   
والظرفية مجازية. ويجوز أن تكون { على } للاستعلاء المجازي، أي ملابساً لأمر قد قدر ومتمكناً منه. ومعنى التمكن شدة المطابقة لما قُدر، وأنه لم يحد عنه قيد شَعَرة. والأمر الحال والشأن وتنوينه للتعظيم. ووصف الأمر بأنه { قد قُدر } ، أي أتقن وأحكم بمقدار، يقال قدَره بالتخفيف إذا ضبطه وعينه كما قال تعالى

السابقالتالي
2