الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } * { أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ }

{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ }. إضراب انتقالي إلى إبطال ضرب آخر من شبهتهم في إنكارهم البعث، وقد علمت في أول السورة أن من أغراضها إثبات البعث والجزاءِ على أن ما جاء بعده من وصف يوم الجزاء وحال أهله قد اقتضته مناسبات نشأت عنها تلك التفاصيل، فإذْ وُفّي حقُّ ما اقتضته تلك المناسبات ثُنِي عِنان الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وإبطال شبهتهم التي تعللوا بها من نحو قولهمأإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً } الإسراء 49. فكان قوله تعالى { أم خلقوا من غير شيء } الآيات أدلةً على أن ما خلقه الله من بَدْء الخلق أعظم من إعادة خلق الإِنسان. وهذا متصل بقوله آنفاًإن عذاب ربك لواقع } الطور 7 لأن شبهتهم المقصود ردها بقوله { إن عذاب ربك لواقع هي قولهمأإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون } الإسراء 49، ونحو ذلك. فحرف مِن في قوله { من غير شيء } يجوز أن يكون للابتداء، فيكون معنى الاستفهام المقدر بعد أم تقريرياً. والمعنى أيقرُّون أنهم خلقوا بعد أن كانوا عَدماً فكلما خلقوا من عدم في نشأتهم الأولى يُنْشأون من عدم في النشأة الآخرة، وذلك إثبات لإِمكان البعث، فيكون في معنى قوله تعالىفلينظر الإنسان ممَّ خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر } الطارق 5 ـــ 8 وقولهكما بدأنا أول خلق نعيده } الأنبياء 104 ونحو ذلك من الآيات. ومعنى { شيء } على هذا الوجه الموجودُ فغير شَيء المعدومُ، والمعنى اخُلقوا من عدم. ويجوز أن تكون مِن للتعليل فيكون الاستفهام المقدر بعد أم إنكارياً، ويكون اسم { شيء } صادقاً على ما يصلح لمعنى التعليل المستفاد من حرف مِن التعليلية، والمعنى إنكار أن يكون خلقهم بغير حكمة، وهذا إثبات أن البعث واقع لأجل الجزاء على الأعمال، بأن الجزاء مقتضى الحكمة التي لا يخلو عنها فعل أحكم الحكماء، فيكون في معنى قوله تعالىأفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } المؤمنون 115 وقولهما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية } الحجر 85. ولحرف مِن في هذا الكلام الوَقْع البديع إذ كانت على احتمال معنييها دليلاً على إمكان البعث وعلى وقوعه وعلى وجوب وقوعه وجوباً تقتضيه الحكمة الإِلهية العليا. ولعل العدول عن صوغ الكلام بالصيغة الغالبة في الاستفهام التقريري، أعني صيغة النفي بأن يقال أما خلقوا من غير شيء والعدولَ عن تعيين ما أضيف إليه { غَير } إلى الإِتيان بلفظٍ مبهم وهو لفظ شيء، روعي فيه الصلاحية لاحتمال المعنيين وذلك من منتهى البلاغة. وإذ كان فرض أنهم خلقوا من غير شيء واضح البطلان لم يحتج إلى استدلال على إبطاله بقوله { أَمْ هُمُ ٱلْخَـٰلِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْض }.

السابقالتالي
2