الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }

انتقال من الاستدلال إلى التهديد وهو معطوف على ما قبله وهذا العطف انتقال إلى الموعظة بما حل بالأمم المكذبة بعد الاستدلال على إمكان البعث بقولهقد علمنا ما تنقص الأرض منهم } ق 4 وما فُرّع عليه من قولهأفَعَيِينَا بالخلق الأول } ق 15. وفي هذا العطف الوعيد الذي أجمل في قولهكذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرّس } ق 12 إلى قولهفحقّ وعيد } ق 14. فالوعيد الذي حقّ عليهم هو الاستئصال في الدنيا وهو مضمون قوله { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً }. والخبر الذي أفاده قوله { وكم أهلكنا قبلهم } تعريض بالتهديد وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وضميرا { قبلهم } و { منهم } عائدان إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام كما تقدم في قوله أول السورة من قولهبل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } ويفسره قوله بعدهفقال الكافرون هذا شيء عجيب } ق 2. وجرى على ذلك السَّنَن قوله { كَذَّبت قبلهم قوم نوح } وقولهبل هم في لبس من خلق جديد } ق 15، ونظائره في القرآن كثيرة. و { كم } خبرية وجرّ تمييزها بــ { من } على الأصل. والبطش القوة على الغير. والتنقيب مشتق من النقْب بسكون القاف بمعنى الثقب، فيكون بمعنى خَرَقوا، واستعير لمعنى ذللوا وأخضعوا، أي تصرفوا في الأرض بالحفر والغرس والبناء ونحت الجبال وإقامة السداد والحصون فيكون في معنى قولهوأثارُوا الأرض وعَمَرُوها } في سورة الروم 9. وتعريف { البلاد } للجنس، أي في الأرض كقوله تعالىالذين طغوا في البلاد } الفجر 11. والفاء في { فنقبوا } للتفريع عن { أشد منهم بطشاً } ، أي ببطشهم وقوتهم نقبوا في البلاد. والجملة معترضة بين جملة { وكم أهلكنا قبلهم } إلى آخره. وجملة { هل من محيص } كما اعترض بالتفريع في قوله تعالىذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } الأنفال 14. وجملة { هل من محيص } بدل اشتمال من جملة { أهلكنا } ، أي إهلاكاً لا منجى منه. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة. فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي، ولذلك دخلت { من } على الاسم الذي بعد الاستفهام كما يقال ما مِن محيص، وهذا قريب من قوله في سورة ص 3كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولاتَ حين مناص } والمحيص مصدر ميمي من حَاص إذا عَدَل وجاد، أي لم يجدوا محيصاً من الإهلاك وهو كقوله تعالىوكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد } في سورة مريم 98. وقوله { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } إلى آخرها يجوز أن تكون الإشارة بذلك إلى إهلاك القرون الأشدِّ بطشاً، ويجوز أن يكون إلى جميع ما تقدم من استدلال وتهديد وتحذير من يوم الجزاء. والذكرى التذكرة العقلية، أي التفكر في تدبر الأحوال التي قضت عليهم بالإهلاك ليقيسوا عليها أحوالهم فيعلموا أن سَيَنَالهُمْ ما نال أولئك، وهذا قياس عقلي يدركه اللبيب من تلقاء نفسه دون احتياج إلى منبه.

السابقالتالي
2