الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

لا أحسب هذه الآية إلاّ تبييناً لقوله في صدر السورةغير محلّى الصيد وأنتم حرم } المائدة 1، وتخلُّصاً لحكم قتل الصيد في حالة الإحرام، وتمهيداً لقولهيا أيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } المائدة 95 جرَّتْ إلى هذا التخلّص مناسبة ذكر المحرّمات من الخمر والميسر وما عطف عليهما فخاطب الله المؤمنين بتنبيههم إلى حالة قد يسبق فيها حرصُهم، حذَرَهم وشهوتُهم تقواهم. وهي حالة ابتلاء وتمحيص، يَظهر بها في الوجود اختلاف تمسّكهم بوصايا الله تعالى، وهي حالة لم تقع وقت نزول هذه الآية، لأنّ قوله { ليبلونّكم } ظاهر في الاستقبال، لأنّ نون التوكيد لا تدخل على المضارع في جواب القسم إلاّ وهو بمعنى المستقبل. والظاهر أنّ حكم إصابة الصيد في حالة الإحرام أو في أرض الحرم لم يكن مقرّراً بمثل هذا. وقد روي عن مقاتل أنّ المسلمين في عمرة الحديبية غشيَهم صيد كثير في طريقهم، فصار يترامى على رحالهم وخيامهم، فمنهم المُحِلّ ومنهم المُحرِم، وكانوا يقدرون على أخذه بالأيدي، وصيد بعضه بالرماح. ولم يكونوا رأوا الصيد كذلك قط، فاختلفت أحوالهم في الإقدَام على إمساكه. فمنهم من أخذ بيده وطعن برمحه. فنزلت هذه الآية اهـــ. فلعلّ هذه الآية ألحقت بسورة المائدة إلحاقاً، لتكون تذكرة لهم في عام حجّة الوداع ليحذروا مثلَ ما حلّ بهم يوم الحديبية. وكانوا في حجّة الوداع أحْوج إلى التحذير والبيان، لكثرة عدد المسلمين عام حجّة الوداع وكثرة من فيهم من الأعراب، فذلك يبيّن معنى قوله { تناله أيديكم ورماحكم } لإشعار قوله { تناله } بأنّ ذلك في مكنتهم وبسهولة الأخذ. والخطاب للمؤمنين، وهو مجمل بيّنه قوله عقبهيا أيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } المائدة 95. قال أبو بكر بن العربي اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية على قولين أحدهما أنّهم المحلّون، قاله مالك، الثاني أنّهم المحرمون، قاله ابن عباس وغيره اهـــ. وقال في «القبس» تَوهّم بعض الناس أنّ المراد بالآية تحريم الصيد في حال الإحرام، وهذه عُضْلة، إنّما المراد به الابتلاء في حالتي الحلّ والحرمة اهـــ. ومرجع هذا الاختلاف النظر في شمول الآية لحكم ما يصطاده الحلال من صيد الحرم وعدم شمولها بحيث لا يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر أو يحتاج. قال ابن العربي في «الأحكام» «إنّ قوله { ليبلونّكم } الذي يقتضي أنّ التكليف يتحقّق في المُحِلّ بما شرط له من أمور الصيد وما شرط له من كيفية الاصطياد. والتكليف كلّه ابتلاء وإن تفاضل في القلّة والكثرة وتبايَن في الضعف والشدّة». يريد أنّ قوله { ليبلونّكم الله بشيء من الصيد } لا يراد به الإصابة ببلوى، أي مصيبة قتل الصيد المحرّم بل يراد ليكلفنّكم الله ببعض أحوال الصيد.

السابقالتالي
2 3 4