الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } * { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }

استئناف خطاب للمؤمنين تقفية على الخطاب الذي قبله ليُنْظَم مضمونه في السلك الذي انتظم فيه مضمون الخطاب السابق، وهو قولهولا تعتدوا } المائدة 87 المشير إلى أنّ الله، كما نَهى عن تَحريم المباح، نهَى عن استحلال الحرام وأنّ الله لمّا أحلّ الطيّبات حرّم الخبائث المفضية إلى مفاسد، فإنّ الخمر كان طيّباً عند الناس، وقد قال الله تعالىومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } النحل 67. والميسر كان وسيلة لإطعام اللحم من لا يقدرون عليه. فكانت هذه الآية كالاحتراس عمّا قد يُساء تأويله من قولهلا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } الأنعام 87. وقد تقدّم في سورة البقرة أنّ المعوّل عليه من أقوال علمائنا أنّ النهي عن الخمر وقع مدرّجاً ثلاث مرات الأولى حين نزلت آيةيسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } البقرة 219، وذلك يتضمّن نهياً غير جازم، فتَرك شرب الخمر ناس كانوا أشدّ تقوى. فقال عمر اللّهمّ بَيّن لنا في الخمر بياناً شافياً. ثم نزلت آية سورة النساء 43يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتّى تعلموا ما تقولون } ، فتجنّب المسلمون شربها في الأوقات التي يظنّ بقاء السكر منها إلى وقت الصلاة فقال عمر اللّهم بيِّن لنا في الخمر بَيَاناً شافياً. ثم نزلت الآية هذه. فقال عمر انتهينا. والمشهور أنّ الخمر حرمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحُد، فتكون هذه الآية نزلت قبل سورة العقود ووضعت بعد ذلك في موضعها هنا. وروي أنّ هذه الآية نزلت بسبب ملاحاة جرَت بين سعد بن أبي وقاص ورجللٍ من الأنصار. روى مسلم عن سعد بن أبي وقّاص قال أتيتُ على نفر من الأنصار، فقالوا تعالَ نطعِمْك ونُسقك خمراً وذلك قبل أن تحرّم الخمر فأتيتهم في حُشّ، وإذا رأسُ جَزور مشوي وزقّ من خمر، فأكلت وشربت معهم، فذكرتُ الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلتُ المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَ جَمَل فضربني به فجَرح بأنفي فأتيت رسول الله فأخبرته، فأنزل الله تعالى فِيّ { إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه }. وروى أبو داود عن ابن عبّاس قاليا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } النساء 43 ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس } البقرة 219 نسختهما في المائدة { إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان }. فلا جرم كان هذا التحريم بمحلّ العناية من الشارع متقدّماً للأمّة في إيضاح أسبابه رفقاً بهم واستئناساً لأنفسهم، فابتدأهم بآية سورة البقرة، ولم يسفّههم فيما كانوا يتعاطون من ذلك، بل أنبأهم بعذرهم في قولهقل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }

السابقالتالي
2 3 4 5 6