الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } * { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } * { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ }

فذلكة لما تقدّم من ذكر ما لاقى به اليهود والنصارى دعوة الإسلام من الإعراض على تفاوت فيه بين الطائفتين فإنّ الله شنّع من أحوال اليهود ما يعرف منه عداوتهم للإسلام إذ قالوليزيدَنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً } المائدة 64، فكرّرها مرّتين وقالترى كثيراً منهم يتولّون الذين كفروا } المائدة 80 وقالوإذا جاؤوكم قالوا آمنّا وقد دخلوا بالكفر } المائدة 61 فعلم تلوّنهم في مضارّة المسلمين وأذاهُم. وذَكر من أحوال النصارى ما شنّع به عقيدتهم ولكنّه لم يحك عنهم ما فيه عداوتهم المسلمين وقد نهى المسلمين عن اتّخاذ الفريقين أولياء في قولهيا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء } المائدة 51 الآية. فجاء قوله { لتجدنّ أشدّ الناس عداوة } الآية فذلكة لحاصل ما تكنّه ضمائر الفريقين نحو المسلمين، ولذلك فُصلت ولم تعطف. واللام في { لتَجدنّ } لام القسم يقصد منها التأكيد، وزادته نون التوكيد تأكيداً. والوجدان هنا وِجدانٌ قلبي، وهو من أفعال العِلم، ولذلك يُعدّى إلى مفعولين، وقد تقدّم عند قوله تعالىولتجدنّهم أحرصَ الناس على حياة } في سورة البقرة 96. وانتصب { عداوة } على تمييز نسبة { أشدّ } إلى النّاس، ومثله انتصاب { مودّة }. وذكر المشركين مع اليهود لمناسبة اجتماع الفريقين على عداوة المسلمين، فقد ألّف بين اليهود والمشركين بُغض الإسلام فاليهود للحسد على مجيء النبوءة من غيرهم، والمشركون للحسد على أن سبقهم المسلمون بالاهتداء إلى الدين الحقّ ونبذ الباطل. وقوله { ولتجدنّ أقربهم مودّة } أي أقرب النّاس مودّة للذين آمنوا، أي أقرب الناس من أهل الملل المخالفة للإسلام. وهذان طرفان في معاملة المسلمين. وبين الطرفين فِرق متفاوتة في بغض المسلمين، مثل المجوس والصابئة وعبدة الأوثان والمعطّلة. والمراد بالنصارى هنا الباقون على دين النصرانية لا محالة، لقوله { أقربهم مودّة للذين آمنوا }. فأمّا من آمن من النصارى فقد صار من المسلمين. وقد تقدّم الكلام على نظير قوله { الذين قالوا إنّا نصارى } في قوله تعالىومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم } المائدة 14، المقصودِ منه إقامة الحجّة عليهم بأنّهم التزموا أن يكونوا أنصاراً للهقال الحواريّون نحن أنصار اللّهِ } الصف 14، كما تقدّم في تفسير نظيره. فالمقصود هنا تذكيرهم بمضمون هذا اللقب ليزدادوا من مودّة المسلمين فيتّبعوا دين الإسلام. وقوله { ذلك } الإشارة إلى الكلام المتقدّم، وهو أنّهم أقرب مودة للذين آمنوا. والباء في قوله { بأنّ منهم قسّيسين } باء السببية، وهي تفيد معنى لام التعليل. والضمير في قوله { منهم } راجع إلى النصارى. والقِسّيسون جمع سلامة لقِسّيس بوزن سِجّين. ويقال قَسّ ـــ بفتح القاف وتشديد السين ـــ وهو عالم دين النصرانية. وقال قطرب هي بلغة الروم. وهذا ممّا وقع فيه الوفاق بين اللغتين. والرهبان هنا جمع راهب، مثل رُكْبان جمع راكب، وفُرسان جمع فارس، وهو غير مقيس في وصففٍ على فاعل.

السابقالتالي
2 3 4