الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

لمّا ذكّرهم بالنَعمة عقّب ذلك بطلب الشكر للمنعم والطاعة له، فأقبل على خطابهم بوصف الإيمان الذي هو منبع النعم الحاصلة لهم. فالجملة استئناف نشأ عن ترقّب السامعين بعد تعداد النعم. وقد تقدّم نظير هذه الآية في سورة النساء، ولكن آية سورة النساء 135 تقولكونوا قوّامين بالقسط شهداء لله } وما هنا بالعكس. ووجه ذلك أنّ الآية الّتي في سورة النّساء وردت عقب آيات القضاء في الحقوق المبتدأة بقولهإنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك الله } النساء 105، ثمّ تعرّضت لقضية بني أبيرق في قولهولا تَكُن للخائنين خصيماً } النساء 105، ثمّ أردفت بأحكام المعاملة بين الرّجال والنّساء، فكان الأهمّ فيها أمرَ العدل فالشهادةِ. فلذلك قدّم فيهاكونوا قوامين بالقسط شهداء لله } النساء 135 فالقسط فيها هو العدل في القضاء، ولذلك عدّي إليه بالباء، إذ قالكونوا قوامين بالقسط } النساء 135. وأمّا الآية الّتي نحن بصدد تفسيرها فهي واردة بعد التذكير بميثاق الله، فكان المقام الأوّل للحصّ على القيام لله، أي الوفاء له بعهودهم له، ولذلك عدّي قوله { قوّامين } باللام. وإذ كان العهد شهادة أتبع قولُه { قوّامين لله } بقوله { شهداء بالقسط } ، أي شهداء بالعدل شهادة لا حيف فيها، وأولَى شهادة بذلك شهادتهم لله تعالى. وقد حصل من مجموع الآيتين وجوب القيام بالعدل، والشهادة به، ووجوب القيام لله، والشهادة له. وتقدّم القول في معنى { ولا يجرمنَّكم شنئان قوم } قريباً، ولكنّه هنا صرّح بحرف على وقد بيّناه هنالك. والكلام على العدل تقدّم في قولهوإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل } النساء 58. والضمير في قوله { هو أقرب } عائد إلى العدل المفهوم من { تعدلوا } ، لأنّ عود الضمير يُكتفى فيه بكلّ ما يفهم حتّى قد يعودُ على ما لا ذكر له، نحوحتّى توارتْ بالحجاب } ص 32. على أنّ العرب تجعل الفعل بمعنى المصدر في مراتب المرتبة الأولى أن تدخُل عليه أن المصدرية. الثّانية أن تُحذف أن المصدريّة ويبقى النصب بها، كقول طرفة
ألا أيّهذَا الزاجري أحْضُرَ الوغى وأن أشهدَ اللذاتِ هَلْ أنت مُخلدي   
بنصب أحضرُ في رواية، ودلّ عليه عطف وأن أشهد. الثّالثة أن تُحذف أن ويُرفع الفعل عملاً على القرينة، كما روي بيت طرفة أحضرُ برفع أحضرُ، ومنه قول المثل تَسْمَعُ بالمعيدي خير من أن تراه، وفي الحديث " تحمل لأخِيك الركابَ صدقة " الرابعة عود الضمير على الفعل مراداً به المصدر، كما في هذه الآية. وهذه الآية اقتصر عليها النحاة في التمثيل حتّى يخيّل للنّاظر أنّه مثال فَذٌّ في بابه، وليس كذلك بل منه قوله تعالىوينذر الّذين قالوا اتّخذ الله ولداً } الكهف 4. وأمثلته كثيرة منها قوله تعالىما لهم به من علم } الكهف 5، فضمير { به } عائد إلى القول المأخوذ من { قالوا } ، ومنه قوله تعالىذلك ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عند ربّه } الحج 30، فضمير { فهو } عائد للتعظيم المأخوذ من فعل { يعظّم } ، وقول بشّار
واللَّه ربّ محمَّد مَا إن غَدَرْت ولا نوَيتُه   
أي الغدر. ومعنى { أقرب للتقوى } أي للتقوى الكاملة الّتي لا يشذّ معها شيء من الخير، وذلك أنّ العدل هو ملاك كبح النّفس عن الشهوة وذلك ملاك التّقوى.