الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }

لمّا كان الكلام السابق جارياً على طريقة خطاب غير المعيّن كانت جملة { قل أتعبدون من دون الله } الخ مستأنفة، أمر الرّسول بأن يبلّغهم ما عنوا به. والظاهر أنّ { أتعبدون } خطاب لجميع من يعبد شيئاً من دون الله من المشركين والنّصارى. والاستفهام للتّوبيخ والتّغليط مجازاً. ومعنى { من دون الله } غير الله. فمِن للتّوكيد، ودون اسم للمغاير، فهو مرادف لسوى، أي أتعبدون معبوداً هو غير الله، أي أتشركون مع الله غيره في الإلهيّة. وليس المعنى أتعبدون معبوداً وتتركون عبادة الله. وانظر ما فسّرنا به عند قوله تعالىولا تسبّوا الّذين يدعون من دون الله } في سورة الأنعام 108، فالمخاطبون كلّهم كانوا يعبدون الله ويشركون معه غيره في العبادة حتّى الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم فهم ما عبدوا المسيح إلاّ لزعمهم أنّ الله حلّ فيه فقد عبدوا الله فيه، فشمل هذا الخطاب المشركين من العرب ونصارى العرب كلَّهم. ولذلك جيء { بما } الموصولة دون مَن لأنّ معظمَ ما عبد من دون الله أشياء لا تَعْقل، وقد غلب ما لما لا يعقل. ولو أريد بــ { ما لا يَملك } عيسى وأمّه كما في «الكشاف» وغيره وجعل الخطاب خاصّاً بالنّصارى كان التّعبير عنه بــ { ما } صحيحاً لأنّها تستعمل استعمال مَن، وكثير في الكلام بحيث يكثر على التّأويل. ولكن قد يكون التّعبير بمَن أظهر. ومعنى { لا يملك ضَرّاً } لا يقدر عليه، وحقيقة معنى الملك التمكّن من التّصرف بدون معارض، ثم أطلق على استطاعة التّصرّف في الأشياء بدون عَجز، كما قال قَيس بن الخَطِيم
مَلَكْتُ بها كفّي فأنْهَرَ فتقَها يرى قائم من دونها مَا وراءهَا   
فإنّ كفّه مملوكة له لا محالة، ولكنّه أراد أنّه تمكّن من كفّه تمام التّمكن فدفع به الرّمح دفعة عظيمة لم تخنه فيها كفّه. ومِن هذا الاستعمال نشأ إطلاق الملك بمعنى الاستطاعة القويّة الثّابتة على سبيل المجاز المرسل كما وقع في هذه الآية ونظائرهاولا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً } الفرقان 3قل لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً } يونس 49إنّ الّذين تعبدون من دون الله لا يَمْلكون لكم رزقاً } العنكبوت 17. فقد تعلّق فعل الملك فيها بمعان لا بأشياء وذوات، وذلك لا يكون إلاّ على جعل الملك بمعنى الاستطاعة القويّة ألا ترى إلى عطف نفي على نفي المِلك على وجه التّرقّي في قوله تعالىويعبدون من دون الله ما لا يَملك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً ولا يستطيعون } في سورة النّحل 73. وقد تقدّم آنفاً استعمال آخر في قولهقل فمن يملك من الله شيئاً إن أرادَ أن يهلك المسيح ابن مريم } المائدة 17. وقُدّم الضَرّ على النّفع لأنّ النّفوس أشدّ تطلّعاً إلى دفعه من تطلّعها إلى جلب النّفع، فكان أعظمَ ما يدفعهم إلى عبادة الأصنام أنّ يستدفعوا بها الأضرار بالنّصر على الأعداء وبتجنّبها إلحاق الإضرار بعابديها.

السابقالتالي
2