الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

استئناف قصد منه الانتقال إلى إبطال مقالة أخرى من مقالات طوائف النّصارى، وهي مقالة المَلْكَانِيَّةِ المُسَمَّيْن بالجِعاثليقِيَّة، وعليها معظم طوائف النّصارى في جميع الأرض. وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالىفآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة } من سورة النّساء 171، وأنّ قوله فيها ولا تقولوا ثلاثة } يجمَع الردّ على طوائف النّصارى كلّهم. والمراد بــ { قالوا } اعتقدوا فقالوا، لأنّ شأن القول أن يكون صادراً على اعتقاد، وقد تقدّم بيان ذلك. ومعنى قولهم { إنّ الله ثالث ثلاثة } أنّ ما يعرفُه النّاسُ أنّهُ اللّهُ هو مجموع ثلاثةِ أشياء، وأنّ المستحقّ للاسم هو أحد تلك الثّلاثة الأشياء. وهذه الثّلاثة قد عبّروا عنها بالأقانِيم وهي أقنوم الوجود، وهو الذات المسمّى الله، وسمّوه أيضاً الأبَ وأقنوم العِلم، وسمَّوه أيضاً الابنَ، وهو الّذي اتّحد بعيسى وصار بذلك عيسى إلهاً وأقنوم الحياة وسَمَّوه الرّوحَ القُدُس. وصار جمهورهم، ومنهم الرَّكُوسية طائفة من نصارى العرب، يقولون إنّه لمّا اتّحد بمريم حينَ حمْلها بالكلمة تألَّهَتْ مريم أيضاً، ولذلك اختلفوا هل هي أمّ الكلمة أم هي أمّ الله. فقوله { ثالث ثلاثة } معناه واحد من تلك الثّلاثة، لأنّ العرب تصوغ من اسم العدد من اثنين إلى عشرة، صيغة فاعِل مضافاً إلى اسم العدد المشتقّ هُو منه لإرادة أنّه جزء من ذلك العَدد نحوثاني اثنين } التوبة 40، فإن أرادوا أنّ المشتقّ له وزنُ فاعل هو الّذي أكْمَلَ العدد أضافوا وزنَ فاعل إلى اسم العدد الّذي هو أرقَى منه فقالوا رابِعُ ثلاثة، أي جَاعل الثلاثة أربعة. وقوله { وما من إله إلاّ إله واحد } عطف على جملة { لقد كفر } لبيان الحقّ في الاعتقاد بعد ذكر الاعتقاد الباطل. ويجوز جعل الجملة حالاً من ضمير { قالوا } ، أي قالوا هذا القول في حال كونه مخالفاً للواقع، فيكون كالتّعليل لكفرهم في قولهم ذلك، ومعناه على الوجهين نفي عن الإله الحقّ أن يكون غير واحد فإنّ مِن لتأكيد عموم النّفي فصار النّفي بــ { ما } المقترنة بها مساوياً للنّفي بـــلا النّافية للجنس في الدلالة على نفي الجنس نصّاً. وعدل هنا عن النّفي بلا التبرئة فلم يُقل ولا إله إلاّ إله واحد إلى قوله { وما من إله إلاّ إله واحد } اهتماماً بإبراز حرف مِن الدالّ بعد النّفي على تحقيق النّفي، فإنّ النّفي بحرف لا ما أفاد نفي الجنس إلاّ بتقدير حرف من، فلمّا قصدت زيادة الاهتمام بالنّفي هنا جيء بحرف مَا النّافية وأظهر بعده حرف من. وهذا ممّا لم يتعرّض إليه أَحدٌ من المفسّرين. وقوله { إلاّ إله واحد } يفيد حصر وصف الإلهيّة في واحد فانتفى التثليث المحكي عنهم. وأمّا تعيين هذا الواحد مَن هو، فليس مقصوداً تعيينه هنا لأنّ القصد إبطال عقيدة التثليث فإذا بطل التثليث، وثبتت الوحدانيّة تعيّن أنّ هذا الواحد هو الله تعالى لأنّه متّفق على إلهيّته، فلمّا بطلت إلهيّة غيره معه تمحّضت الإلهيّة له فيكون قوله هنا { وما من إله إلاّ إله واحد } مساوياً لقوله في سورة آل عمران 62

السابقالتالي
2