الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

موقع هذه الآية دقيق، ومعناها أدقّ، وإعرابها تابع لدقّة الأمرين. فموقعها أدقّ من موقع نظيرتها المتقدّمة في سورة البقرة 62، فلم يكن ما تقدّم من البيان في نظيرتها بمغن عن بيان ما يختصّ بموقع هذه. ومعناها يزيد دقّة على معنى نظيرتها تبعاً لدقّة موقع هذه. وإعرابها يتعقّد إشكاله بوقوع قوله { والصابون } بحالة رفع بالواو في حين أنّه معطوف على اسم { إنّ } في ظاهر الكلام. فحقّ علينا أن نخصّها من البيان بما لم يسبق لنا مثله في نظيرتها ولنبدأ بموقعها فإنّه مَعْقَد معناها. فاعلم أنّ هذه الجملة يجوز أن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لِقولهقل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل } المائدة 68 فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام هل هم على شيء أو ليسوا على شيء، وهل نفعهم اتّباع دينهم أيّامئذٍ فوقع قوله { إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا } الآية جواباً لهذا السؤال المقدّر. والمراد بالّذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمّد صلى الله عليه وسلم أي المسلمون. وإنّما المقصود من الإخبار الّذين هَادوا والصابون والنّصارى، وأمّا التعرّض لذكر الّذين آمنوا فلاهْتماممٍ بهم سنبيّنه قريباً. ويجوز أن تكون هذه الجملة مؤكِّدة لجملةولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا } المائدة 65 الخ، فبعد أن أُتبعت تلك الجملة بما أُتبعت به من الجُمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيداً للوعد، ووصلاً لربط الكلام، وليُلحق بأهل الكتاب الصابئون، وليظهر الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنّات النّعيم. فالتّصدير بذكر الّذين آمنوا في طالعة المعدودين إدماج للتنويه بالمسلمين في هذه المناسبة، لأنّ المسلمين هم المثال الصّالح في كمال الإيمان والتحرّز عن الغرور وعن تسرّب مسارب الشرك إلى عقائدهم كما بشّر بذلك النّبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله " إنّ الشيطان قد يَئس أن يُعبد من دون الله في أرضكم هذه " فكان المسلمون، لأنّهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح، أوّلين في هذا الفضل. وأمّا معنى الآية فافتتاحها بحرف { إنّ } هنا للاهتمام بالخبر لعروّ المقام عن إرادة ردّ إنكار أو تردّد في الحكم أو تنزيل غير المتردّد منزلة المتردّد. وقد تحيّر النّاظرون في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله { من آمن بالله واليوم الآخر } ، إذ من جملة المذكورين المؤمنون، وهل الإيمان إلاّ بالله واليوم الآخر؟ وذهب النّاظرون في تأويله مذاهب فقيل أريد بالّذين آمنوا من آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، وهم المنافقون، وقيل أريد بمن آمن من دام على إيمانه ولم يرتد. وقيل غير ذلك. والوجه عندي أنّ المراد بالَّذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون، ولا يكون إلاّ بالقلب واللّسان لأنّ هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى، فهو راجع إلى علم الله، والله يعلم المؤمن الحقّ والمتظاهر بالإيمان نِفاقاً.

السابقالتالي
2 3