الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ }

{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ }. عطف على جملةوإذا جاؤوكم قالوا آمنّا } المائدة 61، فإنّه لمّا كان أولئك من اليهود والمنافقين انتقل إلى سوء معتقدهم وخبث طويتهم ليظهر فرط التنافي بين معتقدهم ومعتقد أهل الإسلام، وهذا قول اليهود الصرحاء غير المنافقين فلذلك أسند إلى اسم اليهود. ومعنى { يد الله مغلولة } الوصف بالبخل في العطاء لأنّ العرب يجعلون العطاء معبَّراً عنه باليد، ويجعلون بَسْط اليد استعارة للبذل والكرم، ويجعلون ضدّ البسط استعارة للبخل فيقولون أمسك يدَه وقبَض يده، ولم نسمع منهم غَلّ يدَه، إلاّ في القرآن كما هنا، وقولهولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنقك } في سورة الإسراء 29، وهي استعارة قويّة لأنّ مغلول اليد لا يستطيع بسطها في أقلّ الأزمان، فلا جرم أن تكون استعارة لأشدّ البخل والشحّ. واليهودُ أهل إيمان ودين فلا يجوز في دينهم وصف الله تعالى بصفات الذمّ. فقولهم هذا إمّا أن يكون جرى مجرى التهكّم بالمسلمين إلزاماً لهذا القول الفاسد لهم، كما روي أنّهم قالوا ذلك لمّا كان المسلمون في أوّل زمن الهجرة في شدّة، وفَرَض الرسول عليهم الصدقات، وربّما استعان باليهود في الديات. وكما روي أنّهم قالوه لمّا نزل قوله تعالىمن ذا الّذي يُقرض الله قرضاً حسناً } البقرة 245 فقالوا إنّ ربّ محمّد فقير وبخيل. وقد حكي عنهم نظيره في قوله تعالىلقد سمع الله قول الّذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء } البقرة 181. ويؤيّد هذا قوله عقبهُ { وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً }. وإمّا أن يكونوا قالوه في حالة غضب ويأس فقد روي في سبب نزولها أنّ اليهود نزلت بهم شدّة وأصابتهم مجاعة وجَهد، فقال فنحاص بن عَازُورا هذه المقالة، فإمّا تلقَّفُوها منه على عادة جهل العامّة، وإمّا نسب قول حبرهم إلى جميعهم لأنّهم يقلّدونه ويقتدون به. وقد ذمّهم الله تعالى على كلا التقديرين، إذ الأول استخفاف بالإسلام وبدينهم أيضاً، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن هذه المقالات، ولو كانت على نيّة إلزام الخصم، والثّاني ظاهر ما فيه من العجرفة والتأفّف من تصرّف الله، فقابل الله قولهم بالدّعاء عليهم. وذلك ذمّ على طريقة العَرب. وجملة { غُلَّت أيديهم } معترضة بين جملة { وقالت اليهود } وبين جملة { بل يداه مبسوطتان }. وهي إنشاء سبّ لهم. وأخذ لهم من الغُلّ المجازي مُقابِلُه الغلّ الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه، كقول النّبيء صلى الله عليه وسلم " عُصَيَّةُ عَصت الله ورسوله، وأسلم سَلَّمها الله، وغِفَار غَفر الله لها " وجملة { ولعنوا بما قالوا } يجوز أن تكون إنشاء دعاء عليهم، ويجوز أن تكون إخباراً بأنّ الله لعنهم لأجل قولهم هذا، نظير ما في قوله تعالى

السابقالتالي
2 3