الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } * { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }

هذه الجمل معترضة بين ما تقدّمها وبين قولهوإذا جاؤوكم } المائدة 61. ولا يتّضح معنى الآية أتمّ وضوح ويظهرُ الدّاعي إلى أمْرِ الله ورسوله ـــ عليه الصّلاة والسلام ـــ بأن يواجههم بغليظ القول مع أنّه القائللا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظُلم } النساء 148 والقائلولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالّتي هي أحسن إلاّ الّذين ظلموا منهم } العنكبوت 46 إلاّ بعد معرفة سبب نزول هذه الآية، فيعلم أنّهم قد ظَلَموا بطعنهم في الإسلام والمسلمين. فذكر الواحدي وابن جرير عن ابن عبّاس قال جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بنُ أخطب، ورافعُ بن أبي رَافع، وعازر، وزيد، وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، إلى النّبيء فسألوه عمّن يُؤمِن به من الرسل، فلمّا ذكر عيسى ابن مريم قالوا لا نؤمن بمَن آمن بعيسى ولا نعلم ديناً شَرّاً من دينكم وما نعلم أهلَ دين أقلّ حظّاً في الدنيا والآخرة منكم، فأنزل الله { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنا بالله } إلى قوله { وأضلّ عن سواء السبيل }. فخصّ بهذه المجادلة أهل الكتاب لأنّ الكفّار لا تنهض عليهم حجّتها، وأريد من أهل الكتاب خصوص اليهود كما يُنبىء به الموصولُ وصلتُه في قوله { مَن لَعنه اللّهُ وغضب عليه } الآية. وكانت هذه المجادلة لهم بأنّ ما ينقمونه من المؤمنين في دينهم إذا تأمّلوا لا يجدون إلاّ الإيمانَ بالله وبما عند أهل الكتاب وزيادة الإيمان بما أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم. والاستفهام إنكاري وتعجّبي. فالإنكار دلّ عليه الاستثناء، والتعجّبُ دلّ عليه أنّ مفعولات { تنقمون } كلّها محامد لا يَحقّ نَقْمُها، أي لا تجدون شيئاً تنقمونه غير ما ذكر. وكلّ ذلك ليس حقيقاً بأن يُنقم. فأمّا الإيمان بالله وما أنزل من قبلُ فظاهر أنّهم رَضُوه لأنفسهم فلا ينقمونه على من ماثَلَهم فيه، وأمّا الإيمان بما أنزل إلى محمّد فكذلك، لأنّ ذلك شيء رضيه المسلمون لأنفسهم وذلك لا يهُمّ أهل الكتاب، وَدَعا الرسول إليه أهل الكتاب فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، فما وجْه النقْم منه. وعدّي فعل { تنقمون } إلى متعلِّقه بحرف من، وهي ابتدائية. وقد يعدّى بحرف على. وأمّا عطف قوله تعالى { وأنّ أكثرهم فاسقون } فقرأه جميع القرّاء ـــ بفتح همزة أنّ ـــ على أنّه معطوف على { أن آمنّا بالله }. وقد تحيّر في تأويلها المفسّرون لاقتضاء ظاهرها فسق أكثر المخاطبين مع أنّ ذلك لا يَعترف به أهله، وعلى تقدير اعترافهم به فذلك ليس ممّا يُنْقَم على المُؤمنين إذ لا عمل للمؤمنين فيه، وعلى تقدير أن يكون ممّا يُنقم على المؤمنين فليس نقْمُه عليهم بمحلّ للإنكار والتعَجّب الّذي هو سياق الكلام.

السابقالتالي
2 3