الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

تقضَّى تحذيرهم من أعدائهم في الدّين، وتجنيبهم أسباب الضعف فيه، فأقبل على تنبيههم إلى أنّ ذلك حرص على صلاحهم في ملازمة الدّين والذبّ عنه، وأنّ الله لا يناله نفع من ذلك، وأنّهم لو ارتدّ منهم فريق أو نَفَر لم يضرّ الله شيئاً، وسيكون لهذا الدّين أتباع وأنصار وإن صدّ عنه من صَدّ، وهذا كقوله تعالىإن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر } الزمر 7، وقولهيمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } الحجرات 17. فجملة { يا أيّها الّذين آمنوا من يرتدد منكم } الخ معترضة بين ما قبلها وبين جملةإنّما وليّكم الله } المائدة 55، دعت لاعتراضها مناسبة الإنذار في قولهومن يتولّهم منكم فإنّه منهم } المائدة 51. فتعْقِيبُها بهذا الاعتراض إشارة إلى أنّ اتّخاذ اليهود والنّصارى أولياء ذريعة للارتداد، لأنّ استمرار فريق على مُوالاة اليهود والنّصارى من المنافقين وضعفاء الإيمان يخشى منه أن ينسلّ عن الإيمان فريق. وأنبأ المتردّدين ضعفاء الإيمان بأنّ الإسلام غنيّ عنهم إن عزموا على الارتداد إلى الكفر. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر { من يرتَدِدْ } ـــ بدالين ـــ على فَكّ الإدغام، وهو أحد وجهين في مثله، وهو لغة أهل الحجاز، وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام. وقرأ الباقون ـــ بدال واحدة مشدّدة بالإدغام ـــ، وهو لغة تميم. ـــ وبفتححٍ على الدال ـــ فتحة تخلّص من التقاء الساكنين لخفّة الفتح، وكذلك هو مرسوم في مصحف مكّة ومصحف الكوفة ومصحف البصرة. والارتداد مطاوع الردّ، والردّ هو الإرجاع إلى مكان أو حالة، قال تعالىرُدّوها عليّ } ص 33. وقد يطلق الردّ بمعنى التّصييرومنكم من يردّ إلى أرذل العمر } النحل 70. وقد لوحظ في إطلاق اسم الارتداد على الكفر بعد الإسلام ما كانوا عليه قبل الإسلام من الشرك وغيره، ثم غلب اسم الارتداد على الخروج من الإسلام ولو لم يسبق للمرتدّ عنه اتّخاذ دين قبله. وجملة { فسوف يأتي الله بقوم } الخ جواب الشرط، وقد حذف منها العائد على الشرط الإسمي، وهو وعد بأنّ هذا الدّين لا يعدم أتباعاً بررة مخلصين. ومعنى هذا الوعد إظهار الاستغناء عن الّذين في قلوبهم مرض وعن المنافقين وقلّةُ الاكتراث بهم، كقوله تعالى { لوْ خرجوا فيكم مَا زادوكم إلاّ خَبالاً } وتطمين الرسول والمؤمنين الحقَّ بأنّ الله يعوّضهم بالمرتدِّين خيراً منهم. فذلك هو المقصود من جواب الشرط فاستغني عنه بذكر ما يتضمّنه حتّى كان للشرط جوابان. وفي نزول هذه الآية في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إيماء إلى ما سيكون من ارتداد كثير من العرب عن الإسلام مثل أصحاب الأسْود العَنْسي باليمن، وأصحاب طلحة بن خُويلد في بَني أسد، وأصحاب مسيلمة بننِ حبيب الحَنفي باليمامة.

السابقالتالي
2 3 4