الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ }

{ ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ }. يجيء في التقييد باليوم هنا ما جاء في قولهاليوم يئس الذين كفروا من دينكم } المائدة 3 وقولِهاليوم أكملت لكم دينكم } المائدة 3، عدا وجه تقييد حصول الفعل حقيقة بذلك اليوم، فلا يجيء هنا، لأنّ إحلال الطيّبات أمر سابق إذ لم يكن شيء منها محرّماً، ولكن ذلك اليوم كان يوم الإعلام به بصفة كليّة، فيكون كقولهورَضيت لكم الإسلام ديناً } المائدة 3 في تعلّق قوله { اليوم } به، كما تقدّم. ومناسبة ذكر ذلك عقب قولهاليوم يئسَ } المائدة 3 واليوم أكملت } المائدة 3 أنّ هذا أيضاً منّة كبرى لأنّ إلقاء الأحكام بصفة كلّيّة نعمة في التفقّه في الدين. والكلام على الطيّبات تقدّم آنفاً، فأعيدَ ليُبنى عليه قوله { وطعام الذين أوتوا الكتاب }. وعطفُ جملة { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم } على جملة { اليومَ أحلّ لكم الطيّبات } لأجل ما في هذه الرخصة من المنّة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب فلو حرّم الله عليهم طعامهم لشقّ ذلك عليهم. والطعام في كلام العرب ما يطعَمه المرء ويأكله، وإضافته إلى أهل الكتاب للملابسة، أي ما يعالجه أهل الكتاب بطبخ أو ذبح. قال ابن عطية الطعام الذي لا محاولة فيه كالبُرّ والفاكهة ونحوهما لا يغيّره تملّك أحد له، والطعام الذي تقَع فيه محاولة صنعته لا تعلّق للدين بها كخَبز الدقيق وعصر الزيت. فهذا إن تُجنِّبَ من الذميّ فعلى جهة التقذّر. والتذكية هي المحتاجة إلى الدّين والنية، فلمَّا كان القياس أن لا تجوز ذبائحهم رخص الله فيها على هذه الأمّة وأخرجها عن القياس. وأراد بالقياس قياس أحوال ذبائحهم على أحوالهم المخالفة لأحوالنا، ولهذا قال كثير من العلماء أراد الله هنا بالطعام الذبائح، مع اتّفاقهم على أنّ غيرها من الطعام مباح، ولكن هؤلاء قالوا إنّ غير الذبائح ليس مراداً، أي لأنّه ليس موضع تردّد في إباحة أكله. والأولى حمل الآية على عمومها فتشمل كلّ طعام قد يظن أنَّه محرّم علينا إذ تدخله صنعتهم، وهم لا يتَوَقَّوْنَ ما نتوقّى، وتدخله ذكاتهم وهم لا يشترطون فيها ما نشترطه. ودخل في طعامهم صيدهم على الأرجح. و { الذين أوتوا الكتاب } هم أتباع التوراة والإنجيل، سواء كانوا ممّن دعاهم موسى وعيسى ـــ عليهما السلام ـــ إلى اتّباع الدين، أم كانوا ممّن اتّبعوا الدينيين اختياراً فإنّ موسى وعيسى ودعَوا بني إسرائيل خاصّة، وقد تهوّد من العرب أهل اليمن، وتنصّر من العرب تغلب، وبهراء، وكلب، ولخم، ونَجران، وبعض ربيعة وغسّان، فهؤلاء من أهل الكتاب عند الجمهور عدا عليّا بن أبي طالب فإنه قال لا تحلّ ذبائح نصارى تغلب، وقال إنّهم لم يتمسّكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر.

السابقالتالي
2 3 4