الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }

عطفت جملة { كتبنا } على جملةأنزلنا التّوراة } المائدة 44. ومناسبة عطف هذا الحكم على ما تقدّم أنّهم غيّروا أحكام القصاص كما غيّروا أحكام حدّ الزّنى، ففاضلوا بين القتلى والجرحى، كما سيأتي، فلذلك ذيّله بقوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون } ، كما ذيّل الآية الدّالّة على تغيير حكم حد الزّنى بقولهومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } المائدة 44. والكَتْب هنا مجاز في التّشريع والفرض بقرينة تعديته بحرف على، أي أوجبنا عليهم فيها، أي في التّوراة مضمونَ { أنّ النّفس بالنّفس } ، وهذا الحكم مسطور في التّوراة أيضاً، كما اقتضت تعديّة فعل { كتبنا } بحرف في فهو من استعمال اللّفظ في حقيقته، ومجازه. وفي هذا إشارة إلى أنّ هذا الحكم لا يستطاع جحده لأنّه مكتوب والكتابة تزيد الكلام توثّقاً، كما تقدّم عند قوله تعالىيا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى فاكتبوه } في سورة البقرة 282، وقال الحارث بن حلّزة
وهل ينقض ما في المهارق الأهواءُ   
والمكتوب عليهم هو المصدر المستفاد من أنّ. والمصدرُ في مثل هذا يؤخذ من معنى حرف الباء الّذي هو التّعويض، أي كتبنا تعويض النّفسسِ بالنّفس، أي النّفس المقتولة بالنّفس القاتلة، أي كتبنا عليهم مساواةَ القصاص. وقد اتّفق القرّاء على فتح همزة أنّ هنا، لأنّ المفروض في التّوراة ليس هو عين هذه الجمل ولكن المعنى الحاصل منها وهو العوضية والمساواة فيها. وقرأ الجمهور { والعينَ بالعينَ } وما عطف عليها ـــ بالنصب ـــ عطفاً على اسم أنّ. وقرأه الكسائي ـــ بالرفع ـــ. وذلك جائز إذا استكملت أنّ خبرها فيعتبر العطف على مجموع الجملة. والنّفس الذات، وقد تقدّم في قوله تعالىوتنسون أنفسكم } في سورة البقرة 44. والأذن بضمّ الهمزة وسكون الذال، وبضمّ الذال أيضاً. والمراد بالنفس الأولى نفس المعتدى عليه، وكذلك في { والعين } الخ. والباء في قوله { بالنّفس } ونظائره الأربعة باء العوض، ومدخولات الباء كلّها أخبار أنّ، ومتعلّق الجار والمجرور في كلّ منها محذوف، هو كون خاصّ يدلّ عليه سياق الكلام فيقدر أنّ النّفس المقتولة تعوّض بنفس القاتل والعين المتلفة تعوّض بعين المتلف، أي بإتلافها وهكذا النفس متلفة بالنّفس والعين مفقوءة بالعين، والأنفَ مجدوع بالأنف والأذن مصلُومة بالأذن. ولام التّعريف في المواضع الخمسة داخلة على عضو المجني عليه، ومجرورات الباء الخمسة على أعضاء الجاني. والاقتصار على ذكر هذه الأعضاء دون غيرها من أعضاءِ الجسد كاليد والرِجل والإصبع لأنّ القطع يكون غالباً عند المضاربة بقصد قطع الرقبة، فقد ينبو السيفُ عن قطع الرّأس فيصيب بعض الأعضاء المتّصلة به من عين أو أنف أو أذن أو سنّ. وكذلك عند المصاولة لأنّ الوجه يقابل الصائل، قال الحَريش بنُ هلال

السابقالتالي
2 3