الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }

لمّا وصف التّوراة بأنّ فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها. ووصفها بالنزول ليدلّ على أنّها وحي من الله، فاستعير النّزول لبلوغ الوحي لأنّه بلوغ شيءٍ من لدن عظيم، والعظيم يتخيّل عَالياً، كما تقدّم غير مرّة. والنّور استعارة للبيان والحقّ، ولذلك عطف على الهُدى، فأحكامها هادية وواضحة، والظرفية. حقيقية، والهدى والنّور دلائلهما. ولك أن تجعل النّور هنا مستعاراً للإيمان والحكمة، كقولهيخرجهم من الظلمات إلى النّور } البقرة 132، فيكون بينَه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق، فالنّور أعمّ، والعطفُ لأجل تلك المغايرة بالعموم. والمراد بالنبيين فيجوز أنّهم أنبياء بني إسرائيل، موسى والأنبياءُ الّذين جاءوا من بعده. فالمراد بالّذين أسلموا الّذين كان شرعهم الخاصّ بهم كشرع الإسلام سواء، لأنّهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمّتهم بل هي مماثلة للإسلام، وهي الحنيفية الحقّ، إذ لا شكّ أنّ الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة، ألا ترى أنّ الخمر ما كانت محرّمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط، بل حرّمتها التّوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنّك بالنّبيء. ولعلّ هذا هو المراد من وصيّة إبراهيم لبنيه بقولهفلا تموتُنّ إلاّ وأنتم مسلمون } البقرة 132 كما تقدّم هنالك. وقد قال يوسف ـــ عليه السّلام ـــ في دعائهتوفَّنِي مُسلماً وألْحقني بالصّالحين } يوسف 101. والمقصود من الوصف بقوله { الّذين أسلموا } على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء. ويجوز أن يراد بالنبيئين محمد صلى الله عليه وسلم وعبّر عنه بصيغة الجمع تعظيماً له. واللام في قوله { للّذين هادوا } للأجل وليست لتعدية فعل { يحكم } إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم. والّذين هادوا هم اليهود، وهو اسم يرادف معنى الإسرائليين، إلاّ أنّ أصله يختصّ ببني يهوذا منهم، فغلب عليهم من بعد، كما قدّمناه عند قوله تعالىإنُّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصابئين } الآية في سورة البقرة 62. والرّبّانيون جمع ربّاني، وهو العالم المنسوب إلى الربّ، أي إلى الله تعالى. فعلى هذا يكون الربّاني نَسباً للربّ على غير قياس، كما قالوا شعراني لكثير الشعَر، ولحياني لعظيم اللّحية. وقيل الربّاني العالم المُربي، وهوَ الّذي يبتدىء النّاس بصغار العلم قبل كباره. ووقع هذا التّفسير في صحيح البخاري }. وقد تقدّم عند قوله تعالىولكن كونوا رَبَّانيّين } في سورة آل عمران 79. والأحبار جمع حَبْر، وهو العالم في الملّة الإسرائليّة، وهو ـــ بفتح الحاء وكسرها ـــ، لكن اقتصر المتأخّرون على الفتح للتّفرقة بينه وبين اسم المِداد الّذي يكتب به. وعطف { الربّانيّون والأحبار } على { النّبيئون } لأنّهم ورثة علمهم وعليهم تلقّوا الدّين. والاستحفاظ الاستئمان، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حقّ الفهم بما دلّت عليه آياته.

السابقالتالي
2 3 4