الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتُ }. إن كان الناس قد سألوا عمّا أحِلّ لهم من المطعومات بعد أن سمعوا ما حرّم عليهم في الآية السابقة، أو قبل أن يسمعوا ذلك، وأريد جوابهم عن سؤالهم الآن، فالمضارع مستعمل للدلالة على تجدّد السؤال، أي تكرّره أو توقّع تكرّره. وعليه فوجه فصل جملة { يسألونك } أنّها استئناف بيانيّ ناشىء عن جملةحرّمت عليكم الميتة } المائدة 3 وقولهفمن اضطرّ في مخمصة } المائدة 3 أو هي استئناف ابتدائي للانتقال من بيان المحرّمات إلى بيان الحلال بالذات، وإن كان السؤال لم يقع، وإنَّما قصد به توقّع السؤال، كأنَّه قيل إن سَألوكَ، فالإتيان بالمضارع بمعنى الاستقبال لتوقّع أن يسأل الناس عن ضبط الحلال، لأنَّه ممّا تتوجَّه النفوس إلى الإحاطة به، وإلى معرفة ما عسى أن يكون قد حرّم عليهم من غير ما عُدّد لهم في الآيات السابقة، وقد بيّنّا في مواضع ممّا تقدّم، منها قوله تعالىيسألونك عن الأهلّة } في سورة البقرة 189 أنّ صيغة { يسألونك } في القرآن تحتمل الأمرين. فعلى الوجه الأوّل يكون الجواب قد حصل ببيان المحرّمات أوّلاً ثم ببيان الحلال، أو ببيان الحلال فقط، إذا كان بيان المحرّمات سابقاً على السؤال، وعلى الوجه الثاني قد قصد الاهتمام ببيان الحلال بوجه جامع، فعنون الاهتمام به بإيراده بصيغة السؤال المناسب لتقدّم ذكره. و { الطيّبات } صفة لمحذوف معلوم من السياق، أي الأطعمة الطيّبة، وهي الموصوفة بالطيِّب، أي التي طابت. وأصل معنى الطيب معنى الطّهارة والزكاء والوقع الحسن في النفس عاجلاً وآجلاً، فالشيء المستلذّ إذا كان وخِماً لا يسمّى طيِّباً لأنّه يعقب ألماً أو ضُرّاً، ولذلك كان طيّب كلّ شيء أن يكون من أحسن نوعه وأنفعه. وقد أطلق الطيِّب على المباح شرعاً لأنّ إباحة الشرع الشيء علامة على حسنه وسلامته من المضرّة، قال تعالىكلوا ممَّا في الأرض حلالاً طيّباً } البقرة 168. والمراد بالطيّبات في قوله { أحل لكم الطيبات } معناها اللغوي ليصحّ إسناد فعل { أحِلّ } إليها. وقد تقدّم شيء من معنى الطيّب عند قوله تعالىيا أيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّباً } في سورة البقرة 168، ويجيء شيء منه عند قوله تعالىوالبلد الطيّب } في سورة الأعراف 58. والطيّبات } وصف للأطعمة قُرِن به حكم التحليل، فدلّ على أنّ الطِّيبَ علّة التحليل، وأفاد أنّ الحرام ضدّه وهو الخبائث، كما قال في آية الأعراف، في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلمويحلّ لهم الطيّباتِ ويحرّم عليهم الخبائث } الأعراف 157. وقد اختلفت أقوال السلف في ضبط وصف الطيّبات فعن مالك الطيّبات الحلال، ويتعيّن أن يكون مراده أنّ الحلّ هو المؤذن بتحقّق وصف الطيِّب في الطعام المباح، لأنّ الوصف الطيّب قد يخفى، فأخذ مالك بعلامته وهي الحلّ كيلا يكون قوله { الطيّبات } حوالة على ما لا ينضبط بين الناس مثل الاستلذاذ، فيتَعيّن، إذن، أن يكون قوله { أحل لكم الطيبات } غيْر مراد منه ضبط الحلال، بل أريد به الامتنان والإعلام بأنّ ما أحلّه الله لهم فهو طيّب، إبطالاً لِما اعتقدوه في زمن الشرك من تحريم ما لا موجب لتحريمه، وتحليل ما هو خبيث.

السابقالتالي
2 3 4 5 6