الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

قوله { فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم } قد تقدّم الكلام على نظيره في قوله تعالىفبما نقضهم ميثاقهم وكفرِهم } النساء 155، وقولهفبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات } في سورة النّساء 160. واللعن هو الإبعاد، والمراد هنا الإبعادُ من رحمة الله تعالى ومن هديه إذ استوجبوا غضب الله لأجل نقض الميثاق. { وجَعلنا قلوبهم قاسية } قساوة القلب مجاز، إذْ أصلها الصلابة والشدّة، فاستعيرت لعدم تأثّر القلوب بالمواعظ والنذر. وقد تقدّم في قوله تعالىثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك } البقرة 74. وقرأ الجمهور { قاسية } ـــ بصيغة اسم الفاعل ـــ. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف { قَسِيَّة } فيكون بوزن فَعِيلة من قَسَا يَقْسو. وجملة { يُحرّفون الكَلِم عن مواضعه } استئناف أو حال من ضمير { لَعنّاهم }. والتحريف الميل بالشيء إلى الحرف، والحرف هو الجانب. وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلّق به إلى معاني العمل والهُدى وضدّه فمن ذلك قولهم السلوك، والسيرة والسعي ومن ذلك قولهم الصراط المستقيم، وصراطاً سوياً، وسواء السبيل، وجادّة الطريق، والطريقة الواضحة، وسواء الطريق وفي عكس ذلك قالوا المراوغة، والانحراف، وقالوا بنيَّات الطريق، ويعْبُد الله على حرف، ويشعِّبُ الأمور. وكذلك ما هنا، أي يعدلون بالكلم النبويّة عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها، وهو تبديل معاني كتبهم السماوية. وهذا التحريف يكون غالباً بسوء التأويل اتّباعاً للهوى، ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواة العامّة، قيل ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم. وعن ابن عبّاس ما يدلّ على أنّ التحريف فساد التأويل. وقد تقدّم القول في ذلك عند قوله تعالىمن الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } في سورة النساء 46. وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم. وجملة { ونسوا حظّاً } معطوفة على جملة { يحرّفون }. والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالباً. وعبّر عنه بالفعل الماضي لأنّ النسيان لا يتجدّد، فإذا حصل مضى، حتّى يُذكّره مُذكِّر. وهو وإن كان مراداً به الإهمال فإنّ في صوغه بصيغة الماضي ترشيحاً للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى. والحظّ النصيب، وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذمّ. وما ذكّروا به هو التّوراة. وقد جمعت الآية من الدلائل على قلّة اكتراثهم بالدّين ورقّة اتِّباعهم ثلاثة أصول من ذلك وهي التعمّد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال، والغرور بسوء التأويل، والنسيان الناشىءُ عن قلّة تعهّد الدّين وقلّة الاهتمام به. والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها. وقد حاط علماء الإسلام ـــ رضي الله عنهم ـــ هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف، فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقاباً للتمييز بينها، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس يجوز أن يقال هو دين الله، ولا يجوز أن يُقال قاله الله.

السابقالتالي
2