الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }

ناسب ذكرُ ميثاق بني إسرائيل عقب ذكر ميثاق المسلمين من قولهوميثاقه الّذي واثقكم به } المائدة 7 تحذيراً من أن يكون ميثاقنا كميثاقهم. ومحلّ الموعظة هو قوله { فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل }. وهكذا شأن القرآن في التفنّن ومجيء الإرشاد في قالب القصص، والتنقّل من أسلوب إلى إسلوب. وتأكيد الخبر الفعلي بقَد وباللام للاهتمام به، كما يجيء التأكيد بإنّ للاهتمام وليس ثَمّ متردّد ولا مُنزّل منزلتَه. وذكر مواثيق بني إسرائيل تقدّم في سورة البقرة. والبعث أصله التوجيه والإرسال، ويطلق مجازاً على الإقامة والإنهاض كقولهمَنْ بعثنا من مرقَدنا } يس 52، وقولهفهذا يوم البعث } الروم 56. ثم شاع هذا المجاز حتّى بني عليه مجاز آخر بإطلاقه على الإقامة المجازيةإذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } آل عمران 164، ثُمّ أطلق على إثارة الأشياء وإنشاء الخواطر في النفس. قال مُتمم بن نويرة
فقلت لهم إنّ الأسى يَبْعَثُ الأسى   
أي أنّ الحزن يثير حزناً آخر. وهو هنا يحتمل المعنى الأول والمعنى الثّالث. والعدولُ عن طريق الغيبة من قوله { ولقد أخذ الله } إلى طريق التكلّم في قوله { وبعثَنا } التفات. والنقيب فَعيل بمعنى فاعل إمّا من نَقَب إذا حفر مجازاً، أو من نقَّب إذا بعثفنقَّبُوا في البلاد } ق 36، وعلى الأخير يكون صوغ فعيل منه على خلاف القياس، وهو وارد كما صيغ سميع من أسمعَ في قول عمرو بن معد يكرب
أمِن ريحانةَ الداعي السمِيع   
أي المُسْمع. ووصفه تعالى بالحكيم بمعنى المُحكم للأمور. فالنقيب الموكول إليه تدبير القوم، لأنّ ذلك يجعله باحثاً عن أحوالهم فيطلق على الرّئيس وعلى قائد الجيش وعلى الرائد، ومنه ما في حديث بيعة العقبة أنّ نقباء الأنصار يومئذٍ كانوا اثني عشر رجلاً. والمراد بنقباء بني إسرائيل هنا يجوز أن يكونوا رؤساء جيوش، ويجوز أن يكونوا رُواداً وجواسيس، وكلاهما واقع في حوادث بني إسرائيل. فأمّا الأوّل فيناسب أن يكون البعث معه بمعنى الإقامة، وقد أقام موسى ـــ عليْه السّلام ـــ من بني إسرائيل اثني عشر رئيساً على جيش بني إسرائيل على عدد الأسباط المجنّدين، فجعل لكلّ سبط نقيباً، وجعل لسبط يوسف نقيبين، ولم يجعل لسبط لاوي نقيباً، لأنّ اللاويين كانوا غير معدودين في الجيش إذ هم حفظة الشريعة، فقد جاء في أوّل سفر العَدد كلّم الله موسى أحصوا كلّ جماعة إسرائيل بعشائرهم بعدد الأسماء من ابن عشرين فصاعداً كلّ خارج للحرب في إسرائيل حسب أجنادهم، تحسبهم أنت وهارون، ويكون معكما رجل لكلّ سبط رؤوس ألوف إسرائيل «وكلّم الربّ موسى قائلاً أمّا سبط لاوي فلا تعدّه بل وكِّلْ اللاويين على مسكن الشهادة وعلى جميع أمتعته». وكان ذلك في الشهر الثّاني من السنة الثّانية من خروجهم من مصر في برية سينا.

السابقالتالي
2