الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } * { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } * { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ } عطف على قولهإذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك } المائدة 110 فهو ما يقوله الله يوم يجمع الرسل وليس ممّا قاله في الدنيا، لأنّ عبادة عيسى حدثت بعد رفعه، ولقوله { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم }. فقد أجمع المفسّرون على أنّ المراد به يوم القيامة. وأنّ قوله { وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس } قول يقوله يوم القيامة. وهذا مبدأ تقريع النصارى بعد أن فُرغ من تقريع اليهود من قولهإذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك } المائدة 110 إلى هنا. وتقريع النصارى هو المقصود من هذه الآيات كما تقدّم عند قوله تعالىيوم يجمع الله الرسل } المائدة 109 الآية، فالاستفهام هنا كالاستفهام في قوله تعالى للرسلماذا أجبتم } المائدة 109 والله يعلم أنّ عيسى لم يقل ذلك ولكن أريد إعلان كذب من كفر من النصارى. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله { أأنت قلت للناس } يدلّ على أنّ الاستفهام متوجّه إلى تخصيصه بالخبر دون غيره مع أنّ الخبر حاصل لا محالة. فقول قائلين اتّخِذوا عيسى وأمّه إلهين، واقع. وإنّما ألقي الاستفهام لعيسى أهو الذي قال لهم ذلك تعريضاً بالإرهاب والوعيد بتوجّه عقوبة ذلك إلى من قال هذا القول إن تنصّل منه عيسى فيعلم أحبارهم الذين اخترعوا هذا القول أنّهم المراد بذلك. والمعنى أنّه إن لم يكن هو قائل ذلك فلا عذر لمن قاله لأنّهم زعموا أنّهم يتّبعون أقوال عيسى وتعاليمه، فلو كان هو القائل لقال اتّخذوني وأمّي، ولذلك جاء التعبير بهذين اللفظين في الآية. والمراد بالناس أهل دينه. وقوله { من دون الله } متعلّق بِــ { اتّخذوني } ، وحرف { من } صلة وتوكيد. وكلمة { دون } اسم للمكان المجاوز، ويكثر أن يكون مكاناً مجازياً مراداً به المغايرة، فتكون بمعنى سوى. وانظر ما تقدّم آنفاً عند قوله تعالىقل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً } المائدة 76. والمعنى اتّخذوني وأمّي إلهين سوى الله. وقد شاع هذا في استعمال القرآن قال تعالىومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحبّ الله } البقرة 165، وقالويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } يونس 18، وغير ذلك من الآيات التي خوطب بها المشركون مع أنّهم أشركوا مع الله غيره ولم ينكروا إلهيّة الله. وذُكر هذا المتعلّق إلزاماً لهم بشناعة إثبات إلهية لغير الله لأنّ النصارى لمّا ادّعوا حلول الله في ذات عيسى توزّعت الإلهية وبطلت الوحدانية. وقد تقدّم بيان هذا المذهب عند تفسير قوله تعالىلقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } في هذه السورة 17.

السابقالتالي
2 3 4