الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } * { قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ }

إن كان قولهإذ قال الحواريّون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء } المائدة 112 من تمام الكلام الذي يلقيه الله على عيسى يوم يجمع الله الرسل كانت هذه الجملة وهي { قال عيسى ابن مريم اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة } الخ... معترضة بين جملةوإذ أوحيت إلى الحواريّين } المائدة 111 وجملةوإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس } المائدة 116 الآية. وإن كان قولهإذ قال الحواريّون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزّل } المائدة 112 الآية ابتداء كلام بتقدير فعل اذكر كانت جملة { قال عيسى ابن مريم اللهم ربّنا } الآية مجاوبة لقول الحواريّينيا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك } المائدة 112 الآية على طريقة حكاية المحاورات. وقوله { اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة } اشتمل على نداءين، إذ كان قوله { ربّنا } بتقدير حرففِ النداء. كرّر النداء مبالغة في الضراعة. وليس قوله { ربّنا } بدلاً ولا بياناً من اسم الجلالة، لأنّ نداء { اللهمّ } لا يتبع عند جمهور النحاة لأنّه جار مجرى أسماء الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير حتى صار كأسماء الأفعال. ومن النحاة من أجاز إتْباعه، وأيّاً ما كان فإنّ اعتباره نداء ثانياً أبلغ هنا لا سيما وقد شاع نداء الله تعالى { ربّنا } مع حذف حرف النداء كما في الآيات الخواتم من سورة آل عمران. وجمع عيسى بين النداء باسم الذات الجامع لصفات الجلال وبين النداء بوصف الربوبية له وللحواريّين استعطافاً لله ليجيب دعاءهم. ومعنى { تكون لنا عيداً } أي يكون تذكّر نزولها بأن يجعلوا اليوم الموافق يوم نزولها من كلّ سنة عيداً، فإسناد الكون عيداً للمائدة إسناد مجازي، وإنّما العيد اليوم الموافق ليوم نزولها، ولذلك قال { لأوّلنا وآخرنا } ، أي لأوّل أمّة النصرانية وآخرها، وهم الذين ختمت بهم النصرانية عند البعثة المحمدية. والعيد اسم ليوم يعود كلّ سنة، ذكرى لنعمة أو حادثة وقعت فيه للشكر أو للاعتبار. وقد ورد ذكره في كلام العرب. وأشهر ما كانت الأعياد في العرب عند النصارى منهم، قال العجاج
كمَا يعُودُ العيدَ نصرانيّ   
مثل يوم السباسب في قول النابغة
يُحَيَّوْنَ بالرّيْحَان يوْمَ السَّبَاسب   
وهو عيد الشعانين عند النصارى. وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر عيداً في قوله لأبي بكر لمَّا نهى الجواريَ اللاّء كنّ يغَنِّين عند عائشة «إنّ لكلّ قوم عيداً وهذا عيدنا» وسمّى يوم النحر عيداً في قوله «شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجّة». والعيد مشتقّ من العَوْد، وهو اسم على زنة فعل، فجعلت واوه ياء لوقوعها إثر كسرة لازمة. وجمعوه على أعياد بالياء على خلاف القياس، لأنّ قياس الجمع أنّه يردّ الأشياء إلى أصولها، فقياس، جمعه أعواد لكنَّهم جمعوه على أعياد، وصغّروه على عُييد، تفرقة بينه وبين جمع عُودٍ وتصغيره.

السابقالتالي
2 3