الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ } * { فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } * { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ }

استؤنفت هذه الآي استئنافاً ابتدائياً لشرع أحكام التوثّق للوصية لأنّها من جملة التشريعات التي تضمّنتها هذه السورة، تحقيقاً لإكمال الدين، واستقصاء لما قد يحتاج إلى علمه المسلمون وموقعها هنا سنذكره. وقد كانت الوصية مشروعة بآية البقرة 180كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية } وتقدّم القول في ابتداء مشروعيتها وفي مقدار ما نسخ من حكم تلك الآية وما أحكم في موضعه هنالك. وحرص رسول الله على الوصية وأمر بها، فكانت معروفة متداولة منذ عهد بعيد من الإسلام. وكانت معروفة في الجاهلية كما تقدّم في سورة البقرة. وكان المرء يوصي لمن يوصي له بحضرة ورثته وقرابته فلا يقع نزاع بينهم بعد موته مع ما في النفوس من حرمة الوصية والحرص على إنفاذها حفظاً لحقّ الميّت إذ لا سبيل له إلى تحقيق حقّه، فلذلك استغنى القرآن عن شرع التوثّق لها بالإشهاد، خلافاً لما تقدّم به من بيان التوثّق في التبايع بآيةوأشهدوا إذا تبايعتم } البقرة 282 والتوثّق في الدين بآيةيا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } البقرة 282 الخ فأكملت هذه الآية بيان التوثّق للوصية اهتماماً بها ولجدارة الوصية بالتوثيق لها لضعف الذياد عنها لأنّ البيوع والديون فيها جانبان عالمان بصورة ما انعقد فيها ويذُبّان عن مصالحهما فيتّضح الحقّ من خلال سعيهما في إحقاق الحقّ فيها بخلاف الوصية فإنّ فيها جانباً واحداً وهو جانب الموصى له لأنّ الموصي يكون قد ماتَ وجانب الموصى له ضعيف إذ لا علم له بما عقد الموصي ولا بما ترك، فكانت معرّضة للضياع كلّها أو بعضها. وقد كان العرب في الجاهلية يستحفظون وصاياهم عند الموت إلى أحد يثقون به من أصحابهم أو كبراء قبيلتهم أو من حضر احتضار الموصي أو من كان أودع عند الموصي خَبَرَ عزمه. فقد أوصى نزارُ بن مَعَدّ وصية موجزة وأحال أبناءه على الأفعى الجرهمي أن يبيّن لهم تفصيل مراده منها. وقد حدثت في آخر حياة الرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ حادثة كانت سبباً في نزول هذه الآية. ولعلّ حدوثها كان مقارناً لنزول الآي التي قبلها فجاءت هذه الآية عقبها في هذا الموضع من السورة. ذلك أنّه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية هي أن رجلين أحدهما تميم الداريُّ اللخمي والآخر عدي بن بدّاء، كانا من نصارى العرب تاجرين، وهما من أهل دارِين وكانا يتّجران بين الشام ومكةَ والمدينة. فخرج معهما من المدينة بُديل بن أبي مريم مولى بني سَهم ـــ وكان مسلماً ـــ بتجارة إلى الشام، فمرض بديل قيل في الشام وقيل في الطريق برّاً أو بحراً وكان معه في أمتعته جام من فضة مخوّص بالذهب قاصداً به ملكَ الشام، فلمّا اشتدّ مرضه أخذ صحيفة فكتب فيها ما عنده من المتاع والمال ودسّها في مطاوي أمتعته ودفع ما معه إلى تميم وعدي وأوصاهما بأن يبلّغاه مواليه من بني سهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد