الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

تذييل جرى على مناسبة في الانتقال فإنّه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقّبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسؤولين عنه، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعوّ إلى الدعوة، كما قال تعالىإنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } القصص 56. و { عليكم } اسم فعل بمعنى الزَموا، وذلك أنّ أصله أن يقال عليك أن تفعل كذا، فتكون جملة من خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر، وتكون على دالّة على استعلاء مجازي، كأنّهم جعلوا فعل كذا معتلياً على المخاطب ومتمكّناً منه تأكيداً لمعنى الوجوب فلمّا كثر في كلامهم قالوا عليك كذا، فركّبوا الجملة من مجرور خبر واسم ذات مبتدأ بتقدير عليك فعل كذا، لأنّ تلك الذات لا توصف بالعلوّ على المخاطب، أي التمكّن، فالكلام على تقدير. وذلك كتعلّق التحريم والتحليل بالذوات في قولهحرّمت عليكم الميتة } المائدة 3، وقولهأحلّت لكم بهيمة الأنعام } المائدة 1، ومن ذلك ما روي { عليكم الدعاء وعليّ الإجابة } ومنه قولهم عليّ أليّة، وعليّ نذر. ثم كثر الاستعمال فعاملوا على معاملة فعل الأمر فجعلوها بمعنى أمر المخاطب بالملازمة ونصبوا الاسم بعدها على المفعولية. وشاع ذلك في كلامهم فسمّاها النحاة اسم فعل لأنّها جعلت كالاسم لمعنى أمر مخصوص، فكأنّك عمدت إلى فعل الزم فسميّته عَلَى وأبرزت مَا مَعه من ضمير فألصقته بــ عَلى في صورة الضمير الذي اعتيد أن يتّصل بها، وهو ضمير الجرّ فيقال عليك وعليكما وعليكم. ولذلك لا يسند إلى ضمائر الغيبة لأنّ الغائب لا يؤمر بصيغة الأمر بل يؤمر بواسطة لام الأمر. فقوله تعالى { عليكم أنفسكم } هو ـــ بنصب { أنفسكم } ـــ أي الزموا أنفسكم، أي احرصوا على أنفسكم. والمقام يبيّن المحروص عليه، وهو ملازمة الاهتداء بقرينة قوله { إذا اهتديتم } ، وهو يشعر بالإعراض عن الغير وقد بيّنه بقوله { لاَ يضرّكم من ضلّ }. فجملة { لا يضرّكم من ضلّ } تتنزّل من التي قبلها منزلة البيان فلذلك فصلت، لأنّ أمرهم بملازمة أنفسهم مقصود منه دفع ما اعتراهم من الغمّ والأسف على عدم قبول الضالّين للاهتداء، وخشية أن يكون ذلك لتقصير في دعوتهم، فقيل لهم عليكم أنفسكم، أي اشتغلوا بإكمال اهتدائكم، ففعل { يضرّكم } مرفوع. وقوله { إذا اهتديتم } ظرف يتضمّن معنى الشرط يتعلّق بــ { يضرّكم }. وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى. ومن جملة ذلك دعوة الناس إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له وسكتوا عن المنكر لضرّهم من ضلّ لأنّ إثم ضلاله محمول عليهم.

السابقالتالي
2 3