الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ }. تصدير السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود مؤذن بأن سَتَرد بعده أحكام وعقود كانت عقدت من الله على المؤمنين إجمالاً وتفصيلاً، ذكَّرهم بها لأنّ عليهم الإيفاء بما عاقدوا الله عليه. وهذا كما تفتتح الظهائر السلطانية بعبارة هذا ظهير كريم يُتقبل بالطاعة والامتثال. وذلك براعة استهلال. فالتعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق، فشمل العقودَ التي عاقد المسلمون عليها ربّهم وهو الامتثال لِشريعته، وذلك كقولهواذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به } المائدة 7، ومثل ما كان يبَايع عليه الرسولُ المؤمنين أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا، ويقول لهم فمن وفى منكم فأجره على الله. وشَمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين، مثل قولهفسيحوا في الأرض أربعةَ أشهر } التوبة 2، وقولهولا آمِّين البيتَ الحرام } المائدة 2. ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم. والإيفاء هو إعطاء الشيء وافياً، أي غير منقوص، ولمّا كان تحقّق ترك النقص لا يحصل في العرف إلاّ بالزيادة على القدر الواجب، صار الإيفاء مراداً منه عرفاً العدل، وتقدّم عند قوله تعالىفأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم أجورهم } في سورة النساء 173. والعقود جمع عقد بفتح العين، وهو الالتزام الواقع بين جانبين في فعل مّا. وحقيقته أنّ العقد هو ربط الحبل بالعروة ونحوها، وشدّ الحبل في نفسه أيضاً عقد. ثم استعمل مجازاً في الالتزام، فغلب استعماله حتّى صار حقيقة عرفية، قال الحطيئة
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدّوا العِناج وشدّوا فوقه الكَرَبَا   
فذكر مع العقد العناج وهو حبل يشدّ القربة، وذكر الكَرَب وهو حبل آخر للقربة فرَجَعَ بالعقد المجازيّ إلى لوازمه فتَخيّل معه عناجاً وكرباً، وأراد بجميعها تخييل الاستعارة. فالعقد في الأصل مصدر سمّي به ما يعقد، وأطلق مجازاً على التزام من جانبين لشيء ومقابله، والموضع المشدود من الحبل يسمّى عُقدة. وأطلق العقد أيضاً على الشيء المعقود إطلاقاً للمصدر على المفعول، فالعهود عقود، والتحالف من العقود، والتبايع والمؤاجرة ونحوهما من العقود، وهي المراد هنا. ودخل في ذلك الأحكام التي شرعها الله لنا لأنّها كالعقود، إذ قد التزمها الداخل في الإسلام ضمناً، وفيها عهد الله الذي أخذه على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به. ويقع العقد في اصطلاح الفقهاء على إنشاء تسليم أو تحمّل من جانبين فقد يكون إنشاء تسليم كالبيع بثمن ناض وقد يكون إنشاء تحمّل كالإجارة بأجر ناض، وكالسلم والقراض وقد يكون إنشاء تحمّل من جانبين كالنكاح، إذ المهر لم يُعتبر عوضاً وإنَّما العوض هو تحمّل كلّ من الزوجين حقوقاً للآخر. والعقود كلّها تحتاج إلى إيجاب وقبول. والأمر بالإيفاء بالعقود يدلّ على وجوب ذلك، فتعيّن أنّ إيفاء العاقد بعقده حقّ عليه، فلذلك يقضي به عليه، لأنّ العقود شرعت لسدّ حاجات الأمّة فهي من قسم المناسب الحاجيّ، فيكون إتمامها حاجيّاً لأنّ مكمّل كلّ قسم من أقسام المناسب الثلاثة يلحق بمكمَّلِه إنْ ضروريّاً، أو حاجياً، أو تحسيناً.

السابقالتالي
2 3 4 5