الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }

انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض، إذ كان إعجابُ كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشياً في الجاهلية كما ترى بقيته في شعر الفرزدق وجرير، وكانوا يحقرون بعض القبائل مثل بَاهلة، وضُبيعة، وبني عُكل. سئل أعرابي أتحب أن تدخل الجنة وأنت باهلي فأطرق حينا ثم قال على شرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلى. فكان ذلك يجرّ إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام. فعن أبي داود أنه روىٰ في كتابه «المراسيل» عن الزهري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة من الأنصار أن يزوجوا أبا هند مولَى بني بياضة قيل اسمه يَسار امرأةً منهم فقالوا تزوج بناتنا موالينَا، فأنزل الله تعالى { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا } الآية. وروي غير ذلك في سبب نزولها. ونُودوا بعنوان { الناس } دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صُدّر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى }. فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغترّ بأن غالِب الخطاب بــ { يا أيها الناس } إنما كان في المكي. والمراد بالذَكَر والأنثى آدم وحواء أبَوَا البشر، بقرينة قوله { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا }. ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أنتم بنو آدم وآدم من تراب " كما سيأتي قريباً. فيكون تنوين ذكر وأنثىٰ لأنهما وصفان لموصوف فقرر، أي من أب ذكر ومن أم أنثىٰ. ويجوز أن يراد بــ { ذكر وأنثى } صنف الذكر والأنثى، أي كل واحد مكون من صنف الذكر والأنثى. وحرف من على كلا الاحتمالين للابتداء. والشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو مجمع القبائل التي ترجع إلى جد واحد من أمة مخصوصة وقد يسمى جذماً، فالأمة العربية تنقسم إلى شعوب كثيرة فمُضر شعب، وربيعة شعب، وأنمار شعب، وإياد شعب، وتجمعها الأمة العربية المستعربة، وهي عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام، وحمير وسبأ، والأزدُ شعوب من أمة قحطان. وكنانة وقيس وتميم قبائل من شعب مضر. ومَذْحج، وَكِنْدَة قبيلتان من شَعب سَبأ. والأوسُ والخزرج قبيلتان من شَعب الأزد.

السابقالتالي
2 3 4