الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }

لما اقتضت الأخوة أن تَحْسُن المعاملة بين الأخوين كان ما تقرر من إيجاب معاملة الإخوة بين المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم، فجاءت هذه الآيات منبهة على أمور من حسن المعاملة قد تقع الغفلة عن مراعاتها لكثرة تفشّيها في الجاهلية لهذه المناسبة، وهذا نداء رابع أريد بما بَعده أمرُ المسلمين بواجب بعض المجاملة بين أفرادهم. وعن الضحاك أن المقصود بنو تميم إذ سخروا من بلال وعَمار وصهيب، فيكون لنزول الآية سبب متعلق بالسبب الذي نزلت السورة لأجله وهذا من السخرية المنهي عنها. وروى الواحدي عن ابن عباس أن سبب نزولها «أن ثابت بن قيس بن شمَّاس كان في سمعه وَقْر وكان إذا أتى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يقول أوسِعوا له ليجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فجاء يوماً يتخطى رقاب الناس فقال رجل قد أصبتَ مجلساً فاجلِس. فقال ثابت مَنْ هذا؟ فقال الرجل أنا فلان. فقال ثابت ابنُ فلانة وذكر أمًّا له كان يُعيّر بها في الجاهلية، فاستحيا الرجل. فأنزل الله هذه الآية»، فهذا من اللمز. وروي عن عكرمة «أنها نزلت لما عَيّرت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة بالقِصَر»، وهذا من السخرية. وقيل عير بعضهن صفية بأنها يهودية، وهذا من اللمز في عرفهم. وافتتحت هذه الآيات بإعادة النداء للاهتمام بالغرض فيكون مستقلاً غير تابع حسبما تقدم من كلام الفخر. وقد تعرضت الآيات الواقعة عقب هذا النداء لصنف مُهمّ من معاملة المسلمين بعضهم لبعض مما فشا في الناس من عهد الجاهلية التساهلُ فيها. وهي من إساءة الأقوال ويقتضي النهي عنها الأمر بأضدادها. وتلك المنهيات هي السخرية واللمز والنبز. والسَّخر، ويقال السخرية الاستهزاء، وتقدم في قولهفيسخرون منهم } في سورة براءة 79، وتقدم وجه تعديته ب من. والقوم اسم جمع جماعة الرجال خاصة دون النساء، قال زهير
وما أدري وسوف أخال أدري أقوم آلُ حصن أم نساء؟   
وتنكير { قوم } في الموضعين لإفادة الشياع، لئلا يتوهم نهي قوم معينين سخروا من قوم معينين. وإنما أسند { يسخر } إلى { قوم } دون أن يقول لا يسخر بعضُكم من بعض كما قالولا يغتب بعضكم بعضاً } الحجرات 12 للنهي عما كان شائعاً بين العرب من سخرية القبائل بعضها من بعض فوجّه النهي إلى الأقوام. ولهذا أيضاً لم يقل لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة. ويفهم منه النهي عن أن يسخر أحد من أحد بطريق لحن الخطاب. وهذا النهي صريح في التحريم. وخص النساء بالذكر مع أن القوم يشملهم بطريق التغليب العرفي في الكلام، كما يشمل لفظُ { المؤمنين } المؤمنات في اصطلاح القرآن بقرينة مقام التشريع، فإن أصله التساوي في الأحكام إلا ما اقتضى الدليل تخصيص أحد الصنفين به دفعاً لتوهم تخصيص النهي بسخرية الرجال إذ كان الاستسخار متأصلاً في النساء، فلأجل دفع التوهم الناشىء من هذين السيئين على نحو ما تقدم في قوله من آية القصاص

السابقالتالي
2 3