الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً }

استئناف بياني ناشىء عن قولهفأنزل اللَّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } الفتح 26 ودحض ما خامر نفوس فريق من الفشل أو الشك أو التحير وتبيين ما أنعم الله به على أهل بيعة الرضوان من ثواب الدنيا والآخرة إلى كشف شبهة عرضت للقوم في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا قبل خروجه إلى الحديبية، أو وهو في الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وحَلَقوا وقصَّروا. هكذا كانت الرؤيا مُجملة ليس فيها وقوع حجّ ولا عمرة، والحلاق والتقصير مناسب لكليهما. وقصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه فاستبشروا بها وعبَّروها أنهم داخلون إلى مكة بعمرتهم التي خرجوا لأجلها، فلما جرى الصلح وتأهب الناس إلى القفول أثار بعض المنافقين ذكر الرؤيا فقالوا فأين الرؤيا فوالله ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا وقصرنا؟ فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل وأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى أن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وأن الله أوحى إليه بها وأنها وإن لم تقع في تلك القضية فستحقق بعد ذلك وكأنَّ الحكمة في إراءة الله رسوله صلى الله عليه وسلم تلك الرؤيا أيامئذٍ وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بها أن الله أدخل بذلك على قلوبهم الثقة بقوتهم وتربية الجراءة على المشركين في ديارهم فتسلم قلوبهم من ماء الجبن فإن الأمراض النفسية إذا اعترت النفوس لا تلبث أن تترك فيها بقايا الداء زماناً كما تبقى آثار المرض في العضو المريض بعد النقاهة زماناً حتى ترجع إلى العضو قوته الأولى بعد مدة مناسبة. وتوكيد الخبر بحرف قد لإبطال شبهة المنافقين الذين قالوا فأين الرؤيا؟ ومعنى { صدق اللَّه رسوله الرؤيا } أنه أراه رؤيا صادقة لأن رؤيا الأنبياء وحي فآلت إلى معنى الخبر فوصفت بالصدق لذلك. وهذا تطْمين لهم بأن ذلك سيكون لا محالة وهو في حين نزول الآية لمَّا يحصل بقرينة قوله { إن شاء اللَّه }. وتعدية { صدق } إلى منصوب ثان بعد مفعوله من النصب على نزع الخافض المسمّى بالحذف والإيصال، أي حذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور بالعمل فيه النصب. وأصل الكلام صدق الله رسوله في الرؤيا كقوله تعالىصدقوا ما عاهدوا الله عليه } الأحزاب 23. والباء في { بالحق } للملابسة وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف، أي صدقاً ملابسا الحق، أو وقوع حالا صفة لمصدر محذوف، أي صدقا ملابساً وقع حالاً من الرؤيا. والحق الغرض الصحيح والحكمة، أي كانت رؤيا صادقة وكانت مَجْعُولة محكمة وهي ما قدمناه آنفاً.

السابقالتالي
2 3