الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } * { سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } * { وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }

{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ الحربُ أَوزارها }. لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله { حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا الوثاق }. وهو الحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله تعالىما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثْخِن في الأرض } الأنفال 67 الآية إذ لم يكن حكم ذلك مقرراً يومئذٍ، وتقدم في سورة الأنفال. والفاء لتفريع هذا الكلام على ما قبله من إثارة نفوس المسلمين بتشنيع حال المشركين وظهور خيبة أعمالهم وتنويه حال المسلمين وتوفيق آرائهم. والمقصود تهوين شأنهم في قلوب المسلمين وإغراؤهم بقطع دابرهم ليكون الدين كله لله، لأن ذلك أعظم من منافع فداء أسراهم بالمال ليعبد المسلمون ربهم آمنين. وذلك ناظر إلى آية سورة الأنفال وإلى ما يفيده التّعليل من قوله { حتى تضع الحرب أوزارها }. و إذ ظرف للمستقبل مضمنة معنى الشرط، وذلك غالب استعمالها وجواب الشرط قوله { فضَرْب الرقاب }. واللقاء في قوله { فإذا لقِيتم الذين كفروا } المقابلة، وهو إطلاق شهير للقاء، يقال يوم اللقاء، فلا يفهم منه إلا لقاء الحرب، ويقال إن لقيت فلاناً لقيت منه أسداً، وقال النابغة
تجنب بني حُنّ فإن لقاءهم كريهٌ وإن لم تلْق إلا بصائر   
فليس المعنى إذا لقيتم الكافرين في الطريق، أو نحو ذلك وبذلك لا يحتاج لذكر مخصص لفعل { لقيتم }. والمعنى فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضّدتم شوكتهم، فآسروا منهم أسرى. وضرب الرقاب كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم بالطعن في القلوب بالرماح أو بالرمي بالسهام، وأوثرت على كلمة القتل لأن في استعمال الكناية بلاغة ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض. والضرب هنا بمعنى القطع بالسيف، وهو أحد أحوال القتال عندهم لأنّه أدل على شجاعة المحارب لكونه مواجِهَ عدوه وجهاً لوجه. والمعنى فاقتلوهم سواء كان القتَل بضرب السيف، أو طعن الرّماح، أو رشق النبال، لأن الغاية من ذلك هو الإثخان. والذين كفروا هم المشركون لأنّ اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر، نحو الكافرين، والكفار، والذين كفروا، هو الشرك. و { حتى } ابتدائية. ومعنى الغاية معها يؤول إلى معنى التفريع. والإثخان الغلبة لأنها تترك المغلوب كالشيء المثخن وهو الثقيل الصُلب الذي لا يخف للحركة ويوصف به المائع الذي جمد أو قارب الجمود بحيث لا يسيل بسهولة، ووصف به الثوب والحبل إذا كثرت طاقاتهما بحيث يعسر تفككها. وغلب إطلاقه على التوهين بالقتل، وكلا المعنيين في هذه الآية، فإذا فسر بالغلبة كان المعنى حتى إذا غلبتم منهم من وقعوا في قبضتكم أسرى فشدوا وثاقهم وعليه فجواز المنّ والفداءِ غيرُ مقيّد.

السابقالتالي
2 3 4 5