الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم }

كلام المفسرين من قولهولا يسألْكُم أموالَكم } محمد 36 إلى قولهعن نفسه } محمد 38 يعرب عن حَيرة في مراد الله بهذا الكلام. وقد فسرناه آنفاً بما يشفي وبقي علينا قوله { ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْن لتنفقوا } الخ كيف موقعه بعد قوله { ولا يسألكم أموالكم } فإن الدعوة للإنفاق عين سؤال الأموال فكيف يجمع بين ما هنا وبين قوله آنفاً { ولا يسألكم أموالكم }. فيجوز أن يكون المعنى تُدْعَون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال { والله الغني وأنتم الفقراء }. ونظم الكلام يقتضي أن هذه دعوة للإنفاق في الحال وليس إعلاماً لهم بأنهم سيدعون للإنفاق فهو طلبٌ حاصل. ويحمل { تدْعَون } على معنى تؤمرون أي أمر إيجاب. ويجوز أن يحمل { تدعون } على دعوة الترغيب، فتكون الآية تمهيداً للآيات المقتضية إيجاب الإنفاق في المستقبل مثل آيةوجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } التوبة 41 ونحوها، ويجوز أن يكون إعلاماً بأنهم سيدعون إلى الإنفاق في سبيل الله فيما بعد هذا الوقت فيكون المضارع مستعملاً في زمن الاستقبال والمضارع يحتمله في أصْل وضعه. وعلى الاحتمالين فقوله { فمنكم من يبْخل ومن يبْخل فإنما يبْخل عن نفسه } إما مسوق مساق التوبيخ أو مساق التنبيه على الخطإ في الشح ببذل المال في الجهاد الذي هو محلّ السياق لأن المرء قد يبخل بُخلاً ليس عائداً بخلُه عن نفسه. ومعنى قوله { فإنما يبخل عن نفسه } على الاحتمال الأول فإنما يبْخل عن نفسه إذ يتمكن عدّوه من التسلط عليه فعاد بُخله بالضر عليه، وعلى الاحتمال الثاني فإنما يبْخل عن نفسه بحرمانها من ثواب الإنفاق. والقصر المستفاد من { إنما } قصر قلب باعتبار لازم بُخله لأن الباخل اعتقد أنه منع من دَعاه إلى الإنفاق ولكن لازم بخله عاد عليه بحرمان نفسه من منافع ذلك الإنفاق، فالقصر مجاز مرسل مركَّب. وفعل بخل يتعدى بــ { عن } لما فيه من معنى الإمساك ويتعدى بــ على لما فيه من معنى التضييق على المبخول عليه. وقد عدي هنا بحرف { عن }. { وها أنتم هؤلاء } مركب من كلمة ها تنبيه في ابتداء الجملة، ومن ضمير الخطاب ثم من هَا التنبيه الداخلة على اسم الإشارة المفيدة تأكيد مدلول الضمير. ونظيرُه قولهها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } في سورة النساء 109. والأكثر أن يكون اسم الإشارة في مثله مجرداً عن ها اكتفاء بـ هاء التنبيه التي في أول التركيب كقوله تعالىها أنتم أولاء تحبونهم } في سورة آل عمران 119. وجملة { تُدْعَون } في موضع الحال من اسم الإشارة، ومجموع ذلك يفيد حصول مدلول جملة الحال لصاحبها حصولاً واضحاً. وزعم كثير من النحاة أن عدم ذكر اسم الإشارة بعد ها أنا ونحوه لحن، لأنه لم يسمع دخول ها التنبيه على اسم غير اسم الإشارة كما ذكره صاحب «مغني اللبيب»، بناء على أن ها التنبيه المذكورة في أول الكلام هي التي تدخل على أسماء الإشارة في نحو هذا وهؤلاء، وأن الضمير الذي يذكر بعدها فصل بينها وبين اسم الإشارة.

السابقالتالي
2 3