الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ } * { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ }

{ إِنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تعليل لمضمون قولهفلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } محمد 35 الآية، وافتتاحها بــ إنّ مُغنٍ عن افتتاحها بفاء التسبب على ما بينه في دلائل الإعجاز، وليس اتصال إنّ بــ ما الزائدة الكافة بمغيّر موقعها بدون ما لأنّ اتصالها بها زادها معنى الحصر. والمراد بــ { الحياة } أحوال مدة الحياة فهو على حذف مضافَيْن. واللعب الفعل الذي يريد به فاعله الهزل دون اجتناء فائدة كأفعال الصبيان في مرحهم. واللهو العمل الذي يعمل لصرف العقل عن تعب الجد في الأمور فيلهو عن ما يهتم له ويكدّ عقله. والإخبار عن الحياة بأنها لعب ولهو على معنى التشبيه البليغ، شُبهت أحوال الحياة الدنيا باللعب واللهو في عدم ترتب الفائدة عليها لأنها فانية منقضية والآخرة هي دار القرار. وهذا تحذير من أن يحملهم حب لذائذ العيش على الزهادة في مقابلة العدّو ويتلو إلى مسالمته فإن ذلك يغري العدّو بهم.
وحبّ الفتى طول الحياة يذله وإن كان فيه نخوة وعِزَام   
{ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ولا أَمْوَٰلَكُمْ * ؤإِن يَسْـھَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَـٰنَكُمْ }. الأشبه أن هذا عطف على قولهفلا تَهِنُوا وتدعُو إلى السلم } محمد 35 تذكيراً بأن امتثال هذا النهي هو التقوى المحمودة، ولأن الدعاء إلى السلم قد يكون الباعث عليه حبّ إبقاء المال الذي ينفَق في الغزو، فذُكروا هنا بالإيمان والتقوى ليخلعوا عن أنفسهم الوهن لأنهم نُهُوا عنه وعن الدعاء إلى السلم فكان الكف عن ذلك من التقوى، وعطف عليه أن الله لا يسألهم أموالهم إلا لفائدتهم وإصلاح أمورهم، ولذلك وقع بعده قوله { ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْن لتنفقوا في سبيل الله إلى قولهعن نفسه } محمد 38، على أن موقع هذه الجملة تعليل النهي المتقدم بقوله { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } مشير إلى أن الحياة الدنيا إذا عمرت بالإيمان والتقوى كانت سبباً في الخير الدائم. والأجور هنا أجور الآخرة وهي ثواب الإيمان والتقوى. فالخطاب للمسلمين المخاطبين بقوله { فلا تهنوا } الآية. والمقصود من الجملة قوله { وتتقوا } وأما ذكر { تؤمنوا } فللاهتمام بأمر الإيمان. ووقوع { تؤمنوا } في حيز الشرط مع كون إيمانهم حاصلاً يعين صرف معنى التعليق بالشرط فيه إلى إرادة الدوام على الإيمان إذ لا تتقوم حقيقة التقوى إلا مع سبق الإيمان كما قال تعالى { فَكُّ رقبة أو إطعام إلى قولهثم كان من الذين آمنوا } البلد 13 ـــ 17 الآية. والظاهر أن جملة { يؤتِكم أجوركم } إدماج، وأن المقصود من جواب الشرط هو جملة { ولا يسألكم أموالكم }. وعطف { ولا يسألكم أموالكم } لمناسبة قوله { يؤتكم أجوركم } ، أي أن الله يتفضل عليكم بالخيرات ولا يحتاج إلى أموالكم، وكانت هذه المناسبات أحسن روابط لنظم المقصود من هذه المواعظ لأن البُخل بالمال من بواعث الدعاء إلى السلم كما علمت آنفاً.

السابقالتالي
2 3