الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ }

{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفاً }. ضمير { ومنهم } عائد إلىالذين كفروا } محمد 12 الذين جرى ذكرهم غير مرة من أول السورة، أي ومن الكافرين قوم يستمعون إليك، وأراد بمن يستمع معهم المنافقين بقرينة قوله { قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال } وقوله { خرجوا من عندك }. وليس المراد مجرد المستمعين مثل ما في قولهومنهم من يستمعون إليك أفأنت تُسمع الصم } يونس 42 وقولهومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة } الأنعام 25 للفرق الواضح بين الأسلوبين، وهذا صنف آخر من الكافرين الذين أسرّوا الكفر وتظاهروا بالإيمان، وقد كان المنافقون بعد الهجرة مقصودين من لفظ الكفار. وهذه السورة نازلة بقرب عهد من الهجرة فلذلك ذكر فيها الفريقان من الكفار. ومعنى { يستمع إليك } يحضرون مجلسك ويسمعون كلامك وما تقرأ عليهم من القرآن. وهذه صفة من يتظاهر بالإسلام فلا يُعرضون عن سماع القرآن إعراض المشركين بمكة. روي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ورفاعة بن الثابوت، والحارث بن عَمرو، وزيد بن الصلت، ومالك بن الدخشم. والاستماع أشد السمع وأقواه، أي يستمعون باهتمام يظهرون أنهم حريصون على وَعي ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم يُلقون إليه بالهم، وهذا من استعمال الفعل في معنى إظهاره لا في معنى حصوله. وحق فعل استمع أن يعدّى إلى المفعول بنفسه كما في قولهيستمعون القرآن } الأحقاف 29 فإذا أريد تعلقه بالشخص المَسموع منه يقال استمع إلى فلان كما قال هنا { ومنهم من يستمع إليك } ، وكذا جاء في مواقعه كلها من القرآن. و { حتى } في قوله { حتى إذا خرجوا من عندك } ابتدائية و { إذَا } اسم زمان متعلق بــ { قالوا }. والمعنى فإذا خرجوا من عندك قالوا الخ. والخروج مغادرة مكان معيّن محصوراً وغير محصور، فمنهإذ أخرجني من السجن } يوسف 100، ومنهيريد أن يخرجكم من أرضكم } الأعراف 110. والخروج من عند النبي صلى الله عليه وسلم مغادرة مجلسه الذي في المسجد وهو الذي عبر عنه هنا بلفظ { عندك }. و { مِن } لتعدية فعل { خرجوا } وليست التي تزاد مع الظروف في نحو قوله تعالىمِن عند الله } البقرة 89. والذين أوتوا العلم هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الملازمون لمجلسه وسُمِّي منهم عبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وابن عبّاس. وروي عنه أنه قال أنا منهم وسُئِلتُ فيمن سُئل. والمعنى أنهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وما يقوله من الإرشاد وحذف مفعول { يستمعون } ليشمل ذلك. ومعنى { آنفاً } وقتاً قريباً من زمن التكلم، ولم ترد هذه الكلمة إلا منصوبة على الظرفية. قال الزجاج هو من استَأنف الشيءَ إذا ابتدأه اهــ يريد أنه مشتق من فعل مزيد ولم يسمع له فعل مجرد، وظاهر كلامهم أن اشتقاقه من الاسم الجامد وهو الأنْفُ، أي جَارحة الشمّ وكأنهم عنوا به أنف البعير لأن الأنف أول ما يَبْدُو لراكبه فيأخذ بخطامه، فلوحظ في اسم الأنْف معنى الوصف بالظهور، وكني بذلك عن القرب، وقال غيره هو مشتق من أُنُف بضم الهمزة وضم النون يوصف به الكأس التي لم يُشرب منها من قَبل، وتُوصف به الروضة التي لم تُرْع قبلُ، كأنهم لاحَظوا فيها لازم وصف عدم الاستعمال وهو أنه جديد، أي زمن قريب، فــ { آنفاً } زماناً لم يبعد العهد به.

السابقالتالي
2 3