الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ }

استئناف بياني لأن ما جرى من ذكر الجنة في قولهإن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار } محمد 12 مما يستشرف السامعُ إلى تفصيل بعض صفاتها، وإذ قد ذكر أنها تجري من تحتها الأنهار مُوهم السامع أنها أنهار المياه لأن جري الأنهار أكمل محاسن الجنات المرغوب فيها، فلما فُرغ من توصيف حال فريقي الإيمان والكفر، ومما أعد لكليهما، ومن إعلان تباين حاليهما ثُني العنان إلى بيان ما في الجنة التي وعد المتقون، وخص من ذلك بيان أنواع الأنهار، ولما كان ذلك موقع الجملة كان قوله { مثَل الجنة } مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير مَا سيوصف أو ما سيتلى عليكم، أو مما يتلى عليكم. وقوله { كمن هو خالد في النار } كلام مستأنف مقدر فيه استفهام إنكاري دلّ عليه ما سبق من قولهأفمن كان على بينة من ربه كمن زيّن له سوء عمله } محمد 14. والتقدير أكَمَنْ هو خالد في النار. والإنكار متسلط على التشبيه الذي هو بمعنى التسوية. ويجوز أن تكون جملة { مثَل الجنة } بدلاً من جملة { أفمن كان على بينة من ربه } فهي داخلة في حيز الاستفهام الإنكاري. والخبر قوله { كمن هو خالد في النار } ، أي كحال من هو خالد في النار وذلك يستلزم اختلاف حال النار عن حال الجنة، فحصل نحو الاحتباك إذ دل { مَثَل الجنة } على مَثَل أصحابها ودلّ مثل من هو خالد في النار على مثل النار. والمقصود بيان البَون بين حالي المسلمين والمشركين بذكر التفاوت بين حالي مصيرهما المقرر في قولهإن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتٍ } الحج 23 إلى آخره، ولذلك لم يترك ذكر أصحاب الجنّة وأصحاب النار في خلال ذكر الجنة والنار فقال { مثل الجنة التي وُعد المتقون } وقال بعده { كمن هو خالد في النار }. ولقصد زيادة تصوير مكابرة من يُسَوِّي بين المتمسك ببينةِ ربه وبين التابع لهواه، أي هو أيضاً كالذي يسوي بين الجنّة ذات تلك الصفات وبين النار ذاتِ صفاتٍ ضدها. وفيه اطراد أساليب السورة إذ افتتحت بالمقابلة بين الذين كفروا والذين آمنوا، وأعقب باتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق، وثُلّثَ بقوله { أفمن كان على بيّنة من ربّه } الخ. والمثل الحال العجيب. وجملة { فيها أنهار } وما عطف عليها تفصيل للإجمال الذي في جملة { مَثل الجنة } ، فهو استئناف، أو بدل مفصَّل من مجمل على رأي من يثبته في أنواع البدل. والأنهار جمع نهْر، وهو الماء المستبحر الجاري في أخدود عظيم من الأرض، وتقدم في قوله تعالىقال إن الله مبْتلِيكم بنهَر } في سورة البقرة 249. فأما إطلاق الأنهار على أنهار الماء فهو حقيقة، وأما إطلاق الأنهار على ما هو من لبن وخَمر وعَسل فذلك على طريقة التشبيه البليغ، أي مماثلة للأنهار، فيجوز أن تكون المماثلة تامة في أنها كالأنهار مستبحرة في أخاديد من أرض الجنة فإن أحوال الآخرة خارقة للعادة المعروفة في الدنيا، فإن مرأى أنهار من هذه الأصناف مرأى مُبهج.

السابقالتالي
2 3