الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }

أعيد الأمر بأن يقول ما هو حجة عليهم لما علمت آنفاً في تفسير قولهقل أرأيتم ما تدعون من دون الله } الأحقاف 4 الآيات. وهذا جواب عما تضمنه قولهمافتراه } الأحقاف 8 من إحالتهم صدقه فيما جاء به من الرسالة عن الله إحالة دعتهم إلى نسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء على الله. وإنما لم يعطف على جملةقل إن افتريته } الأحقاف 8 لأن المقصود الارتقاء في الرد عليهم من ردّ إلى أقوى منه فكان هذا كالتعدد والتكرير، وسيأتي بعده قولهقل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به } الأحقاف 10. ونظير ذلك ما في سورة المؤمنون 81 ـــ 84بل قالوا مثل ما قال الأولون } إلىقل لمن الأرضُ ومَن فيها إن كنتم تعلمون } وقولِهقل من رب السماوات السبع } المؤمنون 86 وقولهقل من بيده ملكوت كل شيء } المؤمنون 88 الخ. والبِدع بكسر الباء وسكون الدال، معناه البَديع مثل الخِفّ يعني الخفيف قال امرؤ القيس
يزل الغلام الخف عن صواته   
ومنه الخِلّ بمعنى الخليل. فالبِدْع صفة مشبهة بمعنى البَادع، ومن أسمائه تعالى «البديع» خالق الأشياء ومخترعها. فالمعنى ما كنت محدثاً شيئاً لم يكن بين الرسل. و { مِن } ابتدائية، أي ما كنت آتياً منهم بديعاً غير مماثل لهم فكما سمعتم بالرسل الأولين أخبروا عن رسالة الله إياهم فكذلك أنا فلماذا يعجبون من دعوتي. وهذه الآية صالحة للرد على نصارى زماننا الذين طعنوا في نبوته بمطاعن لا منشأ لها إلا تضليلٌ وتمويه على عامتهم لأن الطاعنين ليسوا من الغباوة بالذين يخفى عليهم بهتانهم كقولهم إنه تزوج النساء، أو أنه قاتل الذين كفروا، أو أنه أحبّ زينب بنت جحش. وقوله { وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم } تتميم لقوله { قل ما كنت بدعاً من الرسل } وهو بمنزلة الاعتراض فإن المشركين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات استهزاء فيقول أحدهم إذا ضلَّت ناقته أين ناقتي؟ ويقول أحدهم مَن أبي، أو نحو ذلك فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم بأنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم، أي في الدنيا، وهذا معنى قوله تعالىقل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء } الأعراف 188. ولذلك كان قوله { إن أتبع إلا ما يوحى } استئنافاً بيانياً وإتماماً لما في قوله { وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم } بأن قصارى ما يدريه هو اتباع ما يُعلمه الله به فهو تخصيص لعمومه، ومثل علمه بأنه رسول من الله وأن المشركين في النار وأن وراء الموت بعثا. ومثل أنه سيهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين، ومثل قوله تعالى

السابقالتالي
2