الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }

إضراب انتقال إلى نوع آخر من ضَلال أقوالهم. وسلك في الانتقال مسلك الإضراب دون أن يكون بالعطف بالواو لأن الاضراب يفيد أن الغرض الذي سينتقل إليه له مزيد اتصال بما قبله، وأن المعنى دَعْ قولهمهذا سحر مبين } الأحقاف 7، واستمع لما هو أعجب وهو قولهم { افتَراه } ، أي افترى نسبته إلى الله ولم يرد به السحر. والاستفهام الذي يقدر بعد { أم } للإنكار على مقالتهم. والنفي الذي يقتضيه الاستفهام الانكاري يتسلط على سبب الانكار، أي كون القرآن مفترى وليس متسلطاً على نسبة القول إليهم لأنه صادر منهم وإنما المنفي الافتراء المزعوم. والضمير المنصوب في { افتراه } عائد إلى الحق في قولهقال الذين كفروا للحق } الأحقاف 7، أو إلى القرآن لعلمه من المقام، أي افترى القرآن فزعم أنه وحي من عند الله. وقد أمِر الرسول صلى الله عليه وسلم بجواب مقالتهم بما يقلعها من جذرها، فكان قوله تعالى { قل } جملة جارية مجرى جواب المقاولة لوقوعها في مقابلة حكاية قولهم. وقد تقدم ذلك في قولهقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في أوائل سورة البقرة 30. وجعل الافتراء مفروضاً بحرف { إن } الذي شأنه أن يكون شرطه نادر الوقوع إشارة إلى أنه مفروض في مقام مشتمل على دلائل تقلع الشرط من أصله. وانتصب { شيئاً } على المفعولية لفعل { تملكون } ، أي شيئاً يملك، أي يستطاع، والمراد شيء من الدّفع فلا تقدرون على أن تردوا عني شيئاً يَرد علي من الله. وتقدم معنى لا أملك شيئاً عند قوله تعالىقل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم } في سورة العقود 17. والتقدير إن افتريته عاقبني الله معاقبة لا تملكون ردها. فقوله فلا تملكون لي من الله شيئاً } دليل على الجواب المقدر في الكلام بطريق الالتزام، لأن معنى { لا تملكون لي } لا تقدرون على دفع ضر الله عني، فاقتضى أن المعنى إن افتريته عاقبني الله ولا تستطيعون دفع عقابه. واعلم أن الشائع في استعمال لا أملك لك شيئاً ونحوه أن يسند فعل الملك إلى الذي هو مظنة للدفع عن مدخول اللام المتعلقة بفعل الملك كقوله تعالىقل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً } الأعراف 188 وقولهوما أملك لك من الله من شيء } الممتحنة 4، أو أن يسند إلى عامّ نحو { قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم } فإسناد فعل الملك في هذه الآية إلى المخاطبين وهم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وليسوا بمظنة أن يدفعوا عنه، لأنهم نصبوا أنفسهم في منصب الحُكم على النبي صلى الله عليه وسلم فجزموا بأنه افترى القرآن فحالهم حال من يزعم أنه يستطيع أن يرد مراد الله تعالى على طريقة التهكم.

السابقالتالي
2