الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ }

تفريع على ما سبق في هذه السورة من تكذيب المشركين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بجعلهم القرآن مفترى واستهزائهم به وبما جاء به من البعث ابتداء من قولهوإذا تُتْلَى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين } الأحقاف 7، وما اتصل به من ضَرْب المَثل لهم بعاد. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما لقيه منهم من أذى، وضرب له المثل بالرسل أولي العزم. ويجوز أن تكون الفاء فصيحة. والتقدير فإذا علمت ما كان من الأمم السابقة وعلمت كيف انتقمنا منهم وانتصرنا برسلنا فاصبر كما صبروا. وأولوا العزم أصحاب العزم، أي المتصفون به. والعزم نية محققة على عمل أو قول دون تردد. قال تعالىفإذا عزمت فتوكّل على الله } آل عمران 159 وقالولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } البقرة 235. وقال سعد بن ناشب من شعراء الحماسة يعني نفسه
إذا هَمَّ ألقَى بين عينيه عزمه ونكَّب عن ذكر العواقب جانباً   
والعزم المحمود في الدين العزم على ما فيه تزكية النفس وصلاح الأمة، وقوامه الصبر على المكروه وباعث التقوى، وقوته شدة المراقبة بأن لا يتهاون المؤمن عن محاسبته نفسه قال تعالىوإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } آل عمران 186 وقالولقد عهدنا إلى آدم من قبلُ فنسي ولم نجد له عزماً } طه 115. وهذا قبل هبوط آدم إلى عالم التكليف، وعلى هذا تكون { مِن } في قوله { من الرسل } تبعيضية. وعن ابن عباس أنه قال كل الرسل أولو عزم، وعليه تكون { مِن } بيانية. وهذه الآية اقتضت أن محمداً صلى الله عليه وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه، فصبره مثيل لصبرهم، ومَن صَبَرَ صَبْرَهم كان منهم لا محالة. وأعقبَ أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين، أي الاستعجال لهم بالعذاب، أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلاً لمدة صبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكسب عزمه قوة. ومفعول { تستعجل } محذوف دل عليه المقام، تقديره العذاب أو الهلاك. واللام في { لهم } لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله، أي لا تستعجل لأجلهم، والكلام على حذف مضاف إذ التقدير لا تستعجل لهلاكهم. وجملة { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } تعليل للنهي عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله، قال مرة بن عداء الفقعسي، ولعله أخذ قولَه من هذه الآية
كأنك لم تُسبق من الدّهر ليلةً إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب   

السابقالتالي
2